كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)

قلت: لا يلزم من تضاد المقبولين تضاد القبولين، ألا ترى أن الممكن قابل للوجود والعدم معا، وهما متناقضان، والقبولان يحسُن اجتماعها، لأنه لو وجد أحد القبولين دون الآخر للزم من نفي ذلك القبول ثبوت استحالة ذلك القبول، فإن كان ذلك المستحيل هو الوجود لزم أن يكون ذلك الممكن مستحيلا، والمقرر أنه ممكن، هذا خُلْف، وإن كان المستحيل هو العدم لزم أن يكون (٣٠) واجب الوجود لا ممكنه، هذا خُلْف، فلا يُتَصَوَّرُ الإمكان إلا باجتماع القبولين وإن تنافى المقبولان، فببفى (٣١) الواو.
فإن قيل (٣٢): التصديق والتكذيب نوعان للخبر، والنوع لا يعرف إلا بعد معرفة الجنس، فتعريف الجنس بهما دور، قلتُ: القصد بالحد شرْح لفظ المحدود وبيان نسبته إليه، فإن قولنا: الإنسان هو الحيوان الناطق حدّ صحيح، مع أن السامع يجب أن يكون عالما بالحيوان وبالناطق، وإلا لكان حدُّنا وقع بالمجهول، والتحديد بالمجهول لا يصحُّ، فهو حينئذ عالم بالحيوان والناطق، ومن كان عالما بهما كان عالما بالإنسان، فإنه لا معنى للإنسان إلا هُما، وإذا كان عالما بالإنسان تعيَّن انصراف التعريف بالحد إلى بيان نسبة اللفظ، لأنه حمع لفظ الإنسان فعَلِمَ أن له
---------------
= وقد عقب الشيخ ابن الشاط على كلام الإِمام القرافي هنا، فقال: تفريقه بين التصديق والتكذيب، والصدق والكذب، بأن أولهما وجودي والآخرُ عدمي، بناء على أنه إضافي، غفلة شديدة، وهل خبر المخبر إلا متعلق لتصديق المصَدَّق أو تكذيب المكذب، ومتعلقات الكلام بأسرها لا يلحقها من الكلام إلا أمر إضافي، فقد وقع فيما منه فرَّ .. إلى آخر ما قاله ابن الشاط هنا، فليتأمل.
(٣٠) الضمير في الفعل يكون عائد على الممكن، كما هو واضح في عبارة القرافي حيث قال: "وإن كان المستحيل هو العدم لزم أن يكون ذلك الممكن واجب الوجود لا ممكن الوجود، هذا خُلْفٌ، فلا يُتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين وإن تنافى المقبولان، فتتعين الواو، فهذه الفقرة تزيد عبارة البقوري وضوحا.
(٣١) كذا في نسخة ع. وفي نسخة ح، ونسخة أخرى وعند القرافي، فتعَيَّينَ الواو، أو فتتعين الواو، ولعل كلمة فتتعين أظهر وأنسب في السياق من كلمة يبقى، وهي على وجودها وبقائها كما في نسخة ح لا تناقض المعنى المستفاد من كلمة فتعيّن، أو تتعيَّينُ، والله أعلم.
(٣٢) هذا التساؤل والجواب عنه من أوله إلى آحره، هو مما أورده الإِمام القرافي هنا، ولخصه واختصره بشيء من التصرف الشيخ البقوري رحمه الله.

الصفحة 276