كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)

يقل احدٌ: إن معناه صدور القيام أو عدمه، بل جزم الجميع بالصدور، فعلمنا أن اللغة إنما هي للصدق دون الكذب. (٣٦)
قلت: يظهر لي أنه ليس فيما ذكره دليل على المطلوب، فإنى أقول له: سلمت أن القضية الثبوتية دلت على الصدور، والقضية المنفية دلت على عدم الصدور، وهذا هو مدلول الكلامين، ثم أقول: والصدق والكذب خلاف ذلك كله ومن ورائه، فأقول: دل قام زيد على حصول القيام من زيد في الزمان الماضي، وهل كان المدلول كذلك في الخارج؟
فإذا قيل لى: نعَمْ، قلت: صدَق هذا الكلام، وإن لم، قلت: كذَب هذا الكلام، فالاحتمالان على السواء، ولا يُنسبُ أحدهما لشيء والآخر لشيء آخر كما قال، الكذب من قبل المتكلم، والصدق من قبل الوضع.
قال في التنبيه الثاني: قولنا في حدِّ الخبر: إنه المحتمل للتصديق
والتكذيب، إنما يصح على مذهب الجمهور الذين لا يشترطون في حقيقة الكذب
القصد، وعلى رأى هؤلاء، الخبر صدق وكذب، وما ليس بصدق ولا كذب،
وذلك ما عَرِي عن القصد، قال: وعلى رأى هؤلاء يكون الحد غير جامع، فيكون
فاسداً. (٣٧)
---------------
(٣٦) في نسخة ح: الصدق دون الكذب.
وقال القرافي هنا: ونظير قولنا في الخبر: إنه يحتمل الصدق والكذب، قولنا: إنه يحتمل الحقيقة والمجاز، وأجمعنا على أن المجاز ليس من الوضع الأول، وكذلك الكذب، فالمجاز والكذب إنما يأتيان من جهة المتكلم لا من الوضع، والذي للوضع هو الصدق والحقيقة.
على أن ابن الشاط رحمه الله تعالى لم يسلم هذا الكلام عند القرافي ولم يصحح ما ذكره في هذا التنبيه، فقال: ما جاء عند القرافي في هذا التنبيه خطأ، فليس هناك أحد من أهل علوم اللسان قال: إن كل كاذب، متجوز في إطلاقه على معناه ... الخ
(٣٧) عقب ابن الشاط على هذا الحد والتعريف للخبر بقوله: إنما يصح هذا على مذهب الجمهور وليس بصحيح، بل يصح على كل مذهب على تسليم صحة حدِّه، فإن خبر المخبر غير القاصد للكذب قابل للتصديق والتكذيب، كما أن خبر المخبر القاصد للكذب قابل لذلك، وإنما أوقعه فيما قاله ذهاب وهمه إلى الصدق والكذب عوض التصديق والتكذيب، فقد يصدق الكاذب ويكذب الصادق، ولا يلزم ألا يكذب إلا مَنْ قصَد الكذب، ومن أين يطلع على قصده لذلك، وما استدل به على صحة مذهب الجمهور. صحيح على تقدير إن المرام في المسألة الظن، وأما على تقدير أن المرام فيها القطع فلا ... اهـ.

الصفحة 279