كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)

قلت: من قال بهذا القول فلفظ الخبر عنده يقال على هذين بالاشتراك المحْض، ولا فساد في الحد حينئذ، ثم أبطل هذا المذهب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع، (٣٨) وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كذب عليَّ متَعمِّدا فليتبوأ مقعده من النار، (٣٩) من حيث المفهوم.
قلت: هذا المفهوم لا حجة فيه، فإنه المفهوم الذي يخرج مخرج الغالب، وقد تقرر أنه لا حجة فيه باتفاق، قال (أي القرافي): واستدلوا بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (٤٠)؟ فقالوا: مقابله الكذب بالجنون الذي لا قصد معه يدل على أن الكذب ما كان القصد معه, وردَّه بأن قال: إنما نسبوه إلى الافتراء والجنون، والافتراءُ أخص من الكذب، فالافتراء لا يقال إلا على ما كان معه القصد، وليس الكذب كذلك، بل هو أعم، ولهذا انقسم الكذبُ إلى الافتراء وغَيْره.
فصل:
الإنشاء ينقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه، فالمتفق عليه أربعة أقسام،
القسم الأول، قولنا: أقْسِمُ بالله لقد قام زيد.
---------------
(٣٨) أخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الحافظ السيوطى في كتابه الجامع الصغير، وأورده فيه بلفظ: "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع"، فإن ذلك يفرض المحدث للكذب، والكذب ينشأ عنه الإثم. ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل المحدث والمتكلم بكل ما سمع كاذبا، لأنه في كلامه بذلك غير مطابق في الغالب، وإن كان لم يعرفه حتى يقصد إليه، فدل الحديث على عدم اعتبار القصد في الكذب، وهو قول الجمهور، فالحديث حجة لهم كما ذكره القرافي وأوضحه في بيان الاستدلال به.
(٣٩) أخرجه الإِمام البخاري عن سلمة بن الأكوع بلفظ: "من يقل عليَّ ما لمْ أقُلْ فليتبوأ مقعده من النار" وفي رواية أخرى عن علي رضي الله عنه: "لا تَكْذِبوا عليّ، فإنه من كذب على فليلجْ النار"، ورواه آخرون من أئمة الحديث بالصيغة المذكورة هنا في هذا الكتاب، وهو يُعد عند علماء الحديث من الأحاديث المتواترة.
ووجْه الاستدلال به أن مفهومه أن من كذب غير متعمد لَا يستَحِقُّ النار، فدَل على تصَوُّر حقيقة الكذب من غير قصد إليه، وهو المطلوب كما قال القرافي رحمه الله.
(٤٠) سورة سبأ، الآية ٨.

الصفحة 280