كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)

كذلك أيضا ذكر استدلالا من حيث قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}، وأنهما يستلزمان المعصية، ولا مُدْرَكَ للمعصية إلا الكذبُ، والرد عليه فيه واحد. فقد ظهر ضعف مقالِهِ هنا، وأن الحق ما يقوله الفقهاء أن الظهار إنشاء لا خبرٌ، واللهُ أعلم. (٤٩)
ومما يُقَوى أنه إنشاء بكاء المرأة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، التي ظاهَرَ منها زوجُها، وقوُلها له: إنّ لى صِبْيةً، إن أخذهم ضاعوا، وإن أخذْتهم جاعُوا، مع قوله عليه الصلاة والسلام: "ارجعى إلى ابن عمك" وغيرُ ذلك، فإن القصة تدلُّ على أن الظهار كان تحريما مؤبَّدًا، وهو المناسب للتشبيه بالأمّ، والأصل عدم النقل، فيبقى في الإسلام كذلك حتى يأتي ما يرفعه، والذي رفعه هو الكفارة، وأمّا قبل نزول الآية فكان على ما كان عليه في الجاهلية. وأيضا فهو لفظ يترتب عليه التحريم فيكون إنشاء (٥٠)، إذ هذه خاصة الإِنشاء.
- وتكلّف شهاب الدين رحمه الله الجواب عن هذا، وما رأيت التطويل بذلك، لأن التكلف فيها بيّنٌ من أوّل المسألة، فالحَقُّ أنهُ إنشاءٌ.
قال: وأما قول الفقهاء: له صريحٌ وكناية، كما قالوا في الطلاق، فذلك ليس يدل على أنهم يعتقدون أنه إنشاء، بل المرادُ أن الظهار يتفاوت في مراتب الكذب، فالصريح أقبَحُ وأشنع.
---------------
(٤٩) قلت: وقد سبق تعليق الفقيه ابن الشاط على أن اعتبار صيغة الظهار من قبيل الخبر غير المذهب، وهو مما يلمح إلى اعتبارها من قبيل الإنشاء ويدل عليه، وهو ما انتهى إليه الشيخ البقوري رحمه الله، وأخذ يأتي بما يدل له ويقويه، فخالف قول شيخه القرافي في هذه المسألة. وقصة المرأة وهي خَولَة بنتُ ثعلبة، زوجُ أوْسِ بن الصامت ذكرها علماء التفسير والحديث وتعرضوا لها بتفصيل في مطلع كلامهم عن سورة المجادلة، وفي مقدمتهم الحافظ ابن كثير في تفسيره الشهير. ومما ورد في كتبهم وكتب المحدثين والفقهاء أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله تعالى في الإسلام تحريما تُحِلُّهُ الكفارة كما تُحِلُّ الرجعة تحريم الطلاق.
(٥٠) عبارة القرافي هنا رحمه الله: "فيكون سبباً له (أي للتحريم)، والإنشاء من خصائصه أنه سبب لمدلوله، وثبوت خصيصية الشيء يقتضى ثبوته، فيكون (أي الظهار) إنشاء كالطلاق، وهي تزيد عبارة الشيخ البقوري وضوحا وبيانا أكثر.

الصفحة 286