كتاب ترتيب الفروق واختصارها (اسم الجزء: 1)

لم تعلم مشيئته، بخلاف التعليق على مشيئة البشر (٢٢).
قلت: هذا ضعيف غاية، فظهر أن الانسان إذا قال: أنت طالق إن شاء الله هو بمنزلة ما إذا قال: إن شاء الله أن يصل فلان إلى هذه البلدة وصل، وإن شاء الله أن لا يصل فإنه لا يصل، فنحن لا نعلم في ذلك الوقت ما الذي عند الله تعالى في ذلك حتى يموت فلان المذكور، فيبرز لنا حينئذ مشيئته. وأما قبل موته: فمشيئة الله تعالى مغيبة عنا. وإذا كان الأمر هكذا صدق قوله في الطلاق، وقد تقدم التنبيه الآخر على ذلك.
القاعدة الرابعة: الشرط وجوابه لا يتعلقان إلا بمعدوم ومستقبل (٢٣).
---------------
(٢٢) علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء في هذه القاعدة من أولها إلى آخرها عند القرافي، فقال: ما قاله في هذه القاعدة، من كون مشيئة الله معلومة قطعًا، بمعنى أنه ما من وجود ممكن ولا عدمه إلا مستند إلى مشيئته، فمشيئته على هذا الوجه معلومة عندنا، صحيح، وليس ذلك مراد مَالِكٍ وغيرهِ مِمَّنْ روى عنه إذا قال أنت طالق ان شاء الله يلزمه الطلاق، لأنه علقه على مشيئة من لا يعلم مشيئته، بل مراد من قال ذلك، أنه لا يعلم، هل أراد الطلاق على التعيين أم لا، وليس لنا طريق إلى التوصل إلى ذلك. وأما التوصل إلى علم مشيئة البشر فبوجوه، منها إخباره بذلك مع قرائن توجب حصول العلم.
وقوله: غاية خبره أن يفيد الظن، إنما ذلك عند عدم القرائن، مع أنه يحتمل أن يقال بالاكتفاء هنا بالظن، لأنه الغالب، والله أعلم.
فقوله: "فظهر بطلان ما يروى عن مالك"، قول باطل لا خفاء ببطلانه، ولو لم يظهر وجه بطلان قوله لكانت مخالفته لمالك كافية في سوء الظن بقوله، لتفاوت ما بينهما في العلم.
قلت: لعل الفقيه ابن الشاط رحمه الله وسامحه لم يتعمق في كلام القرافي وفي وجه قوله بطلان ما روي عن الإمام مالك في هذه المسألة، فسارع إلى القول باعتبارت مخالفته لمالك فيها كافية في سوء الظن بقوله. ح أن شهاب الدين القرافي رحمه الله بنى قوله ببطلان ما روي عن مالك رحمه الله فيها على ما قرره في أول هذه القاعدة الثالثة من أن مشيئة الله واجبة النفوذ، وانتهى من خلال ذلك إلى ما وصل إليه اجتهاده وفهمه العميق للقواعد والفروع من أن مشيئة الله معلومة قطعا، وعليه فلا داعى حينئذ لاعتبار مخالفته لإمامه في هذه المسألة وإبداء رأيه فيها كافية في إساءة الظن بقوله فيها، خاصة وأن القرافي على سعة اطلاعه وطول باعه ورسوخ قدمه في هذه العلوم، وعلى مكانته وعلو قدره فيها ممن يأخذ بالذهب ويتمسك به ويتبصر له، ولم يقل في قول، ولم يدِّع في مسألة - فيما أذكر وأستحضر - أنه إمام مجتهد يرتفع إلى مكانة إمام المذهب مالك بن أنس رحمه الله. فالكمال لله وحده، وفوق كل ذي علم عليم، والله أعلم بالحق والصواب. فليتامل.
(٢٣) علق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على هذه القاعدة والعبارة عند الإِمام القرافي رحمه الله، فقال: "ليس ذلك بمطرد لازم، ولكنه الغالب والأكثر".

الصفحة 65