كتاب معجم متن اللغة (اسم الجزء: 1)

إخوانه ومعاشريه. ولكن هذه المقاطع التي صيغت له على البساطة الفطرية لا تقوم بالحاجة ولا تفي بالغرض، فعمد إلى التوسع؛ فربما تركب المعنى أمامه، فركب المقاطع الدالة على جزأيه تركيبًا مزجيًا، ثم شذ بها بالنحت، فخرجت كلمة جديدة، كما قالوا في "أجنك فعلت" أي من أجل أنك فعلت. وقالوا: "برقل برقلة، بمعنى: كذب." - قال الخليل: إنه من قولهم: برق لا مطر معه -وقالوا: "حبرم: أي اتخذ حب الرمان." وكما في: بسمل، وحوقل، وجعفل، وطلبق، وكثير أمثال ذلك؛ فأشبه هذا الانتقال في الكتابة من دلالة الصور على الوقائع إلى جعلها رمزًا لمقطع حرفي.
وربما عر ض للإنسان معنى يقرب من بعض المعاني التي لها مقاطع صوتية، فدل عليها بما يقرب من ذلك المقطع مع شيء من تحريف أو تبديل كما في: "درأ وطلع" أو تقديم وتأخير كما في: "جذب وجبذ"؛ وربما أطلق الكلمة على غير معناها لمناسبة أو شبه مناسبة أو لأدنى ملابسة، ثم يشيع هذا الإطلاق فيصبح وضعًا مستقلًا. وحيث أنهم لم يشترطوا في أصل الوضع قوة المناسبة، وقرب المعنى من اللفظ، اتسع نطاق إطلاق الألفاظ على المعاني بادئ بدء، فاتسعت اللغة واختلف الزمان والمكان، وطال المدى، وتعددتا الشعوب، فاختلفت جهات الاستعمال: فكانت اللغات القريبة التناسب والبعيدة فيه، كما كان ذلك في الكتابة وتنوعها.
التسامح في رعاية المناسبة عند الوضع:
أما أن إطلاق اللفظ على المعنى أول وضعه وكونه يصح لأقل مناسبة، فلا أحسب أحدًا يسلم به., وما أشبه الإنسان الأول - وقد احتاج إلى ألفاظ لمعان يريدها ثم لم يجدها، فتناول ما تيسرت له معرفته، وإن كانت فيه نفحة من الملابسة - ما أشبهه بالطفل الذي يرى الأشياء أمامه ولا يعرف أسماءها، فيختار لها من مخزون ذهنه الصغير اللفظ الذي ينطلق به لسانه، فيطلقه عليه. وقد رأيت بعض الأطفال الصغار لأول عهده بالكلام يسمي العصا "توتو" لأنه أول ما رآها مضروبًا بها الكلب، فكان هذا الاسم مخزونًا في ذهنه فأطلقه على العصا لأنه رآها وهو يضرب بها.
وأذكر مما كنت قرأته أن بضع القبائل البادية، كانت تدل على الكلب بسحب السبابة والوسطى من الأصابع على الأرض منفرجتين، لأنهم كانوا وقت ارتحالهم يلقون عمد البيوت على أعناق الكلاب مقرونة عمودين عمودين، فتجرها هذه إلى حيث ينزلون. وإذا راجعت كتب اللغة تجد ما يدلك على التوسع في إطلاق الكلمات على المعاني المتقاربة وغيرها لأقل ملابسة.
فقد جاء في اللغة، كما في المصباح: عقره عقرًا "من باب ضرب": جرحه. وعقر البعير بالسيف عقرًا: ضرب قوائمه (ولا يطلق العقر في غير القوائم). وقال أبو زيد في نوادره:

الصفحة 22