كتاب معجم متن اللغة (اسم الجزء: 1)

2 - ولو صح هذا، فلا يكون دليلًا على أن لغتهم هي لغة الإنسان الأول بعينها، لم يطرأ عليها تطور ولا تغير ولا تبديل، إذ لا ملازمة بين اللغة والأرض. ولا نعلم أيضًا أن أمة من الأمم تثبت على لغة واحدة على اختلاف العصور والأحوال، حتى تثبت لغة الأرمن على توالي الأزمنة منذ نشأة الإنسان الأول إلى اليوم.
وادعى العبرانيون أن العبرانية هي اللغة الأولى، وأنها لغة الإنسان الأول لأن أسماء الأنبياء الأولين وآباء البشر أسماء عبرانية، وفي ذلك دليل على أنها كانت لغة لهم. وهذا أيضًا فيه نظرن لأننا إنما أخذنا هذه الأسماء عن العبرانية ولا نعلم هل نقلت كما هي أو تغيرت ثم نقلت، كما فعل اليونان بأسماء البلاد التي دخلت في حوزتهم، وكما يفعل الصهيونيون اليوم في أسماء البلاد التي تدخل في حوزتهم من أرض فلسطين، ومتى وقع الاحتمال بطل الاستدلال.
وادعى العرب أن العربية هي لغة آدم أبي البشر، وجاء في أساطيرهم أن آدم رثى ابنه هابيل بأبيات شعر عربي. ثم قالوا: إن عربية آدم حرفت، فصارت سريانية بطول العهد وتقادمه. ولما حصل الطوفان طوفان نوح لم يكن في سفينته عربي غير جرهم، وكان لسان كل من في السفينة السرياني، وهو مشاكل للعربية إلا أنه محرف. أخرج هذا القول ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس، وقال به عبد الملك بن حبيب، وهو المفهوم من فحوى كلام ابن فارس في فقه اللغة، ولكنه قول مجرد ودعوى بلا دليل، ومال نسبوه إلى آدم من الشعر يصعب على كل ذي ذوق وأدب تصديقه.
القول الحق في ذلك:
لم تكن اللغة الأولى للبشر لغة صريحة مستقلة بنفسها بحيث يصح أن تسمى لغة، بل كانت، كما سلف القول به، مقاطع على أبسط ما يكون، ثم ترقت. فلا هي الصينية، ولا العربية، ولا العبرانية، وإنما هذه لغات نشأت وتفرعت منذ ها الجذر الذي بنمو فروعه التي أصبحت أمهات وطوائف، تلد كل أم أو طائفة منها بنات كانت بالنسبة إلى كل طائفة أخوات. وإنما القول في أيهن أقدم عهدًا بالأم وأقرب شبهًا بالأصل؟ هذا هو محل البحث؛ وإني أرجح أن تكون العربية، بالنسبة إلى الفرع السامي، كما ستراه.
طوائف اللغات:
قلنا: إن حياة اللغات وارتقاءها مبنيان على ما لأهل كل لغة من النصيب في الرقي، وعلى مقدار جهود بنيها في حفظها وصونها وتحسينها. وهكذا ارتقت لغات واتسعت، وماتت لغات لعجزها وعجز بنيها عن النهوض بها أو بموت أمتها، فكم أشرق نجم أمة وأزهر، ونالت حظها من

الصفحة 28