كتاب معجم متن اللغة (اسم الجزء: 1)

يشبه لغة نبيلة يفهمها نخبة القوم يجهلها العامة. وكان العامة وسكان المدن والقرويون يتكلمون باللهجة الآرامية التي كانت أثقل من تلك، وأوضح وأكثر تفصيلًا.
لكن هذه اللغة النبيلة بعد أن فتك بها التطور وأبعدها عن ألسنة العامة، لم يقدر نخبة المتعلمين على حفظها في دفاترهم، فأهملتا شيئًا فشيئًا، حتى هجرت واستقر كل فرع لها في بيئته، وانتهى الأمر على ما قيل في القرن الأول للميلاد.
إن الساميين لما احتلوا هذه الأرض وملكوا أمرها، ودانت لهم وانتشرت لغتهم بين سكانها، وهم من أصل صحراوي، كما يقول العلامة "سايس" وغيره، كل منهم طبعًا سكان بادية وسكان حاضرة، ولكن التطور اللغوي إنما ينمو حيث يكثر الاختلاط بين أبناء اللغات المختلفة، كما سلف القول في ذلك، وذلك متوفر في الحاضرة أكثر منه في البادية، فكانت على هذا لغة البادية، أكثر سلامة وأقرب إلى لغة الساميين الأولى.
وكما أطلق على سكان الحاضرة منهم اسم الآراميين، أطلق على أهل البادية منهم اسم بدو الآراميين. وبحكم العادة والاستقراء نقول: إن البداوة سابقة على الحضارة، فبدو الآراميين أي العرب كانوا في البادية قبل أن يتحضر قسم منهم، فكانت معهم في بواديهم لغتهم الأولى قبل أن تفسدها الحاضرة ويأخذ التطور منها مأخذه. لذلك أراني كثير الميل إلى القول بأن لغة بدو الآراميين هذه هي الفصحى التي بقيت وسلمت، أو سلم أكثرها في سجلات الدولة، وعند نخبة المتعلمين، لأنهم حملوها وهم منغمسون غفي البوادي، فلمي فعل التطور في لهجتهم فعله في اللهجات الأخرى، بضعف أسبابه، إلا الذين كانوا في أطراف البادية يهبطون المدن لحاجاتهم، فإنهم يحملون شيئًا من انحراف اللسان واللهجة. وربما كان ذلك منهم تشبهًا بسكان المدن في اللهجة وتقليدًا كما نرى لعهدنا هذا. فكان بالطبع يسري عنهم سريانًا بطيئًا في داخل البادية.
ويؤيد صدر هذا الكلام ما قاله جماعة من العلماء مثل سايس وسبرنجر Sprenger من ان أصل الساميين من بادية العرب، وقول ابن خلدون عند كلامه على الطبقة الأولى منن العرب: "أنهم انتقوا إلى جزيرة العرب مخيمين، ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام." على أن التاريخ نفسه يسمي أهل البادية العربية: بدو الآراميين.
فإذا كانت لغتهم أبعد بنات السامية عن التحريف، كانت اقرب بناتها إليها إن لمتكن هي الأم نفسها .. وبدو الآراميين هم العرب، واللغة العربية هي لغتهم، فتكون اللغة العربية هي الأم وأقرب بناتها غليها.
نزل العرب (بدو الآراميين) هذي البوادي، وانتشروا في نجد والحجاز وتهامة واليمامة وبوادي الشام، وبلغوا اليمن، وزاحموا الكوشيين أبناء حام هناك.

الصفحة 34