كتاب الأزهر في ألف عام (اسم الجزء: 1)

مباشرة بتجريد مصر الإسلامية من ذخائرها النفيسة في الآثار والكتب، وحمل كل ذلك الى القسطنطينية، وقد قبض الغزاة على العلماء الأعلام والزعماء وقادة الفكر وبعثوا بهم جميعا إلى تركيا، وهكذا انهار صرح الحركة الفكرية الإسلامية، وتضاءل شأن العلوم والفنون، وانحط معيار الثقافة، بعد أن كانت مصر موثل الثقافة ومحط العلماء بعد سقوط بغداد على أيدي المغول، وانقضاء البقية الباقية من سلطان المسلمين في الأندلس. بعد أن وجد العلماء من المماليك ما أملوا، ووجد الإسلام فيهم حماة يقفون له كما وقف الأيوبيون من قبل، وكان ردهم للمغول في موقعة عين جالوت على يد قطز حدثا تاريخيا حفظ الحضارة الإسلامية من معاول التتر، ورفع شأن مصر، وجعلها مهبط الثقافة الإسلامية، والأمينة على تراث الإسلام منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.
وقد كان الفضل في ذلك للأزهر. فقد اتسع صدره للواردين من العلماء والطلاب في كافة البلاد، ومكن لهم من الدراسة الهادئة والبحث المنظم مما أفاد الحضارة الإنسانية بأجزل الفوائد، بما أخرجوا من فرائد الكتب في الفقه والحديث والتفسير واللغة.
وإذا كان الأزهر قد انطوى على نفسه في العصر التركي وذوت آثاره العلمية، فقد استطاع بما له من نفوذ في نفوس العامة والخاصة أن يحمل العناصر الاستعمارية على احترام مكانته وعلى اللجوء إليه في الملمات، وكان يتوسط فيما ينشب بينهم وبين المصريين من خلاف، واستطاع الأزهر في هذه الحقبة المظلمة من تاريخه أن يحفظ اللغة العربية، وأن يقاوم لغة الفاتحين، وأن يبقى بابه مفتوحا لطلاب العلوم الإسلامية واللغة العربية مدى ثلاثة قرون، حتى انزاح عن صدره الكابوس التركي، وبدأ النور يبزغ من جديد في أوائل القرن التاسع عشر يحمل في طياته الأمل. . وقد تميز العصر التركي في مصر بفتور الهمم عن التأليف والتدوين، وانصراف المؤرخين عن تناول الشؤون العامة والأمور النافعة إلى ملق الحكام والأكابر، وتدوين سيرهم الشخصية. وأما العلماء فقد استكانوا إلى الراحة

الصفحة 116