كتاب الأزهر في ألف عام (اسم الجزء: 1)

وكادت هذه المدرسة الاسلامية الكبرى أن تفقد مميزاتها، من حرية الفكر والإنتاج الخصب، لو لا أن قيض اللّه لها مصلحين أخذوا بيدها، وجنبوها عواقب هذه الآفات والعلل حتى تجمعت فيها، وأثرت في مجرى حياتها.
لقد نفى العثمانيون العلماء المصريين إلى القسطنطينية 1؛ وانتزعوا الكتب من المساجد والمدارس والمجموعات الخاصة ليودعوها مكتبات العاصمة التركية. وما زالت منها إلى اليوم بقية كبيرة في مكتبات استانبول، ومنها مؤلفات خطية لكثير من أعلام القرن التاسع الهجري المصريين مثل المقريزي، والسيوطي، والسخاوي، وابن إياس، مما يندر وجوده بمصر صاحبة هذا التراث العلمي.
وهكذا انهار صرح الحركة الفكرية في مصر عقب الفتح التركي، كما انهارت عناصر القوة والحياة في المجتمع المصري، وتضاءل شأن العلوم والآداب، وانحط معيار الثقافة، واختفى جيل العلماء الأعلام الذين حفلت بهم العصور السالفة، ولم يبق من الحركة الفكرية الزاهرة التي أظلتها دولة السلاطين المصرية سوى آثار دارسة، يبدو شعاعها الضئيل من وقت إلى آخر.
وقد أصاب الأزهر ما أصاب الحركة الفكرية كلها من الانحلال والتدهور، واختفى من حلقاته كثير من العلوم التي كانت زاهرة به من قبل، حتى إن العلوم الرياضية. لم تكن تدرس به في أواخر القرن الثاني عشر، وقد لاحظ ذلك الوزير أحمد باشا والي مصر سنة 1161 ه‍ (1748 م)، في نقاشه للشيخ عبد اللّه الشبراوي شيخ الأزهر يومئذ وأنكره في حديث أورده الجبرتي 2، مما يدل على ما آلت اليه أحوال الدراسة بالأزهر خلال العصر التركي من التأخر والركود.
__________
1) يعقد ابن إياس مؤرخ الفتح العثماني فصلا خاصا يذكر فيه أسماء مئات من الأكابر والعلماء المصريين الذين نفاهم السلطان سليم إلى القسطنطينية (بدائع الزهور ج 3 ص 119 وما بعدها).
2) عجائب الآثار ج 1 ص 193

الصفحة 118