على أن الجامع الأزهر-كما يقول عنان-قام عندئذ بأعظم وأسمى مهمة أتيح له أن يقوم بها. فقد استطاع خلال المحنة الشاملة أن يستبقي شيئا من مكانته، وأن يؤثر بماضيه التالد وهيبته القديمة في نفوس الغزاة انفسهم، فنجد الفاتح التركي يتبرك بالصلاة فيه غير مرة 1، ونجد الغزاة يبتعدون عن كل مساس به، ويحلونه مكانا خاصا، ويحاولون استغلال نفوذ علمائه كلما حدث اضطراب أو ثورة داخلية. وفي خلال ذلك صار الأزهر ملاذا أخيرا لعلوم الدين واللغة، وغدا بنوع خاص معقلا حصينا للغة العربية، يحتفظ في أروقته بكثير من قوتها وحيويتها، ويدرأ عنها عادية التدهور النهائي، ويمكنها من مغالبة لغة الفاتحين ومقاومتها، وردها عن التغلغل في المجتمع المصري 2.
وهكذا استطاع الأزهر في تلك الأحقاب المظلمة أن يسدي إلى اللغة العربية أجل الخدمات. وإذا كانت مصر قد لبثت خلال العصر التركي ملاذا لطلاب العلوم الاسلامية واللغة العربية من سائر أنحاء العالم
__________
1) راجع ابن إياس في بدائع الزهور ج 3 ص 116 و132
2) كان بين الأساتذة الذين تولوا التدريس بالجامع الأزهر في أوائل العصر العثماني: نور الدين علي البحيري الشافعي المتوفي سنة 944 ه، والعلامة شهاب الدين ابن عبد الحق السنباطي المتوفى سنة 950 ه، وعبد الرحمن المناوي المتوفى سنة 950 ه، وشمس الدين الشيشيني القاهري الشافعي، والإمام شمس الدين أبو عبد اللّه العلقمي المتوفي سنة 962 ه، والإمام شمس الدين الصفدي المقدسي الشافعي المتوفي في حدود التسعين وتسعمائة (راجع في تراجم هؤلاء العلماء، الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة- مخطوط بدار الكتب). وكان منهم في أواسط العصر العثماني: عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المالكي المتوفى سنة 1099 ه، والعلامة شاهين بن منصور بن عامر الأرمناوي المتوفي سنة 1101 ه، والعلامة شمس الدين محمد بن محمد الشهير بالشرنبابلي المتوفى سنة 1102 ه. والإمام العلامة إبراهيم بن محمد شهاب الدين البرماوي المتوفى سنة 1106 ه والشيخ حسن بن علي بن محمد الجبرتي جد والد الجبرتي المؤرخ، وقد توفي سنة 1116، والعلامة عبد الحي بن عبد الحق الشرنبلالي المتوفى سنة 117 ه (راجع في تراجم هؤلاء العلماء عجائب الآثار للجبرتي، الجزء الأول).