كتاب المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة (اسم الجزء: 1)

فهذه الآيات وغيرها توضح أن العباد مختارون وأن أعمالهم واقعة بمشيئتهم، وإن كانت هذه المشيئة غير خارجة عن مشيئة اللّه جل وعلا كما سبق إيضاحه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فى معرض كلامه عن القدرية والجبرية: «قسم يجعلون أنفسهم هى الخالقة المحدثة للحسنات والسيئات، وأن نعمة اللّه الدينية على المؤمن والكافر سواء وأنه لم يعط العبد إلا قدرة واحدة تصلح للضدين وليس بيد اللّه هداية خص بها المؤمن، أو تطلب منه بقول العبد اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» وأنه لا يقدر على هداية ضال، ولا إضلال مهتد، فهؤلاء القدرية المجوسية.
وقسم: يسلبون العبد اختياره وقدرته، ويجعلونه مجبورا على حركاته من جنس حركة الجمادات، ويجعلون أفعاله الاختيارية والاضطرارية من نمط واحد يقول أحدهم: إن جميع ما أمر اللّه به ورسوله فإنما هو أمر بما لا يقدر عليه، ولا يطيقه، فيسلبونه القدرة مطلقا، إذ لا يثبتون له إلا قدرة واحدة مقارنة بالفعل ولا يجعلون للعاصى قدرة أصلا.
فهذه المقالات وأمثالها من مقالات الجبرية والقدرية الذين أنكر قولهم- كما أنكروا قولهم الأولون- أئمة الهدى مثل عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعى، وسفيان ابن سعيد الثورى، ومحمد بن الوليد الزبيدى، وعبد الرحمن بن مهدى وأحمد ابن محمد بن حنبل وغيرهم فإن ضموا إلى ذلك إقامة العذر للعصاة بالقدر وقالوا: إنهم معذورون لذلك لا يستحقون اللوم والعذاب، أو جعلوا عقوبتهم ظلما، فهؤلاء كفار، كما أن من أنكر علم اللّه القديم من غلاة القدرية فهو كافر.
وإن جعلوا ثبوت القدر موجبا لسقوط الأمر والنهى والوعد والوعيد كفعل المباحية، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من جنس المشركين الذين قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
___________
(1) سورة الفاتحة/ 6.

الصفحة 160