فحقيقة «قدمنا»: عمدنا، وقدمنا أبلغ، لأنه دلّ فيه على ما كان من إمهاله لهم، حتى كأنه كان غائبا عنهم ثم قدم، فاطّلع منهم على غير ما ينبغى، فجازاهم بحسبه، وقوله: {فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} حقيقته: أبطلناه حتى لم يحصل منه شيء، فالاستعارة هاهنا أبلغ من الحقيقة.
ومن ذلك قوله: {إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} (¬1) حقيقة «طغا» علا وطما، فالاستعارة أبلغ، لأن فيها دلالة على القهر، وذلك أن الطّغيان علوّ فيه غلبة وقهر.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَاِشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (¬2) حقيقته: كثر الشّيب فى الرأس وظهر، فاستعار له الاشتعال، لفضل ضياء النار على ضياء الشّيب.
ومن ذلك قوله: {إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً} (¬3) استعار له السّراج، أو للقرآن، فى قول من قدّر حذف مضاف، فأراد: وذا سراج منير.
ومن ذلك استعارة النبىّ صلى الله عليه وآله وسلم للغيرة أنفا، وقد رأى عليّا وفاطمة عليهما السلام، فى بيت فردّ الباب عليهما، وقال: «جدع الحلال أنف الغيرة (¬4)».
¬_________
(¬1) سورة الحاقة 11.
(¬2) الآية الرابعة من سورة مريم.
(¬3) سورة الأحزاب 45،46.
(¬4) لم أجده فى كتب السنة التى بين يدىّ، ولا فى كتب غريب الحديث التى أعرفها، كذلك لم أجده فى المظانّ الأخرى، مثل المجازات النبوية للشريف الرضىّ، ثم وجدت أبا منصور الثعالبيّ يقول عند كلامه على «أنف الكرم»: «قد تصرّف الناس فى استعارة الأنف بين الإصابة والمقاربة، وأحسن وأبلغ ما سمعت فيها قول النبىّ صلّى الله عليه وسلم: «جدع الحلال أنف الغيرة» ثمار القلوب ص 330، وذكره الميدانىّ فى مجمع الأمثال 1/ 163، ثم قال: «قاله صلّى الله عليه وسلم ليلة زفت فاطمة إلى علىّ رضى الله تعالى عنهما، وهذا حديث يروى عن الحجاج بن منهال يرفعه» وذكره أيضا أبو هلال، فى ديوان المعانى 1/ 101،2/ 95