كتاب الإمام محمد بن عبدالوهاب في مدينة الموصل (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الجزء الأول)
لقد أقامت قوانين الأرض بين أمصار المسلمين الحدود والسدود، ومزقت الجسد الواحد الحي، فأصبح أعضاءً وأشلاءً متفرقة بلا حياة، وكانت مساجد المسلمين تخرج الدعاة، فأصبحت معاهد المسلمين تخرج الموظفين، وكان في كل مصر من أمصار المسلمين عدد عديد من العلماء الأعلام، فأصبحت تلك الأمصار تخلو من العلماء، وكان العلماء المسلمون يحكمون أصحاب السلطان، فأصبحوا اليوم يستخذون للحكام، وكان الأمراء على أبواب العلماء، فأصبح العلماء على أبواب الأمراء، وكانوا فقراء بالمال أغنياء بكرامة العلم والعلماء، فأصبحوا أغنياء بالمناصب والمرتبات فقراء بكرامة العلم والعلماء، وأقفلت المدارس الدينية، فخلت المساجد والجوامع من العلماء الدعاة الذين يرجون ما عند الله، وفتحت المدارس المدنية فعمرت بيوت الله بأصحاب الشهادات الموظفين الذين يرجون ما عند الناس، وأقفرت ديار المسلمين من الأئمة المرشدين إلا بقية تعدّ على الأصابع من علماء الدين المعتمدين الذين تعلموا في الجوامع، وأينعت ديار المسلمين بأصحاب الشهادات الموظفين الذين تخرجوا في الجامعات، وآثر خريجو المعاهد المدنية الذين تعلموا العلوم الدينية فيها منابر الجامعة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن منبر الجامعة الذي يشغله المسلم وغير المسلم أدسم من منبر الجامع الذي يشغله المسلم دون غيره، وهكذا غزر الإنتاج بكثرة الخريجين وساء التوزيع بقلة رجال الدين.
لقد صنعت الحدود ووضعت السدود في ديار المسلمين تلك القوانين الوضعية، الذي جاء بها نابليون من فرنسا وربط خيوله في فناء الأزهر، وجاء بها المستعمر ليذل المسلمين ويفرق كلمتهم ويستعبدهم ويجعل منهم مسلمين جغرافيين.
وسحقت المدارسَ الدينيةَ المبادئُ الوافدةٌ والتعليمُ الغربي المستورد، الذي يسلب المسلم عقيدته ويعمر قلبه بالاتجاه المادي، فيصبح كالحيوان يهمه المسكن المريح والطعام الفاخر والجنس، ولا يهتم بما بعد الحياة، والمرء كما يعيش في الدنيا يرحل إلى الآخرة، فلابد أن يكون لمصيره في الآخرة من تفكيره ونشاطه أوفى نصيب، والمبادئ الوافدة والتعليم الغربي تعمل للدنيا ولا تعمل للآخرة، والحضارات المادية ماتت إلى الأبد بعد موت دعاتها، والحضارات التي بقيت هي الحضارات التي جمعت بين المادة والروح، وقد أكثر الحكام المسلمون من حديثهم عن الإنجازات المادية، ونسوا المتطلبات الروحية، وستفنى
الصفحة 86
416