كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 1)

وكان الغالب في الترجيح أن يرجح العالم قول من كان ببلده من الصحابة أو التابعين لمزيد معرفته بهم المقتضية لزيادة الوثوق هذا مع ما للإلف والعادة من الأثر الخفي. فإن لم يجد شيئاً مما تقدم اجتهد رأيه وقضى وأفتى بما يظهر له .
ثم إذا قضى أو أفتى مستنداً إلى شيء مما تقدم ثم وجد دليلاً أقوى مما استند إليه يخالف ما ذهب إليه سابقاً أخذ من حينئذ بالأقوى . على هذا جرى الخلفاء الراشدون وغيرهم كما هو مبسوط في مواضعه ومنها ( إعلام الموقعين ) .
وكان كثير من أهل العلم من الصحابة وغيرهم يتقون النظر فيما لم يجدوا فيه نصاً ، وكان منهم من يتوسع في ذلك ، ثم نشأ من أهل العلم ولا سيما بالكوفة من توسع في ذلك ، وتوسع في النظر في القضايا التي لم تقع وأخذوا يبحثون في ذلك ويتناظرون ويصرفون أوقاتهم في ذلك ، واتصل بهم جماعة من طلبة العلم تشاغلوا بذلك ورأوه أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان والإمعان في جمع الأحاديث والآثار ، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم والإمعان في ذلك ليعرف الصحيح من السقيم والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح ، ويعرف العام والخاص والمطلق والمبين وغير ذلك ، فوقعوا فيما روي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال : (( إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم أن يحفظوها فقالوا في الدين برأيهم )) راجع ( أعلام الموقعين ) طبعة مطبعة النيل بمصر ج 1 ص 62 وراجع ( كتاب العلم ) لابن عبد البر .
فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا به وأفتوا مسائل ثبتت فيها السنة مخالفة لما ذهبوا إليه ، لم يكونوا اطلعوا عليها ، فكان الحديث من تلك الأحاديث إذا بلغهم فيه لمخالفتهم ما ذهب إليه أسلافهم واستمر عليه عملهم ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول ( القياس) ، فمن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة بحيث قهرهم فلم يجدوا بداً من الأخذ به ، وكثير منها كانوا يردونها ويتلمسون المعاذير مع أن منها ما هو أثبت وأظهر وأقرب إلى القياس من أحاديث قد أخذوا بها لكن هذه التي أخذوا بها مع ما فيها من الضعف ومخالفة القياس وردت عليهم قبل أن يذهبوا إلى خلافها فقبلوها اتباعاً ، وتلك التي ردوها

الصفحة 23