كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 1)

يسوغ لك أن تشهد بهذه الملكة لمن تتهمه بما ذكر، ولو كان كل عدل حقيقياً بأن يتهمه عارفوه بنحو ما ذكر لما كان في الناس عدل، وفي أصحابنا من لا نتهمه في شهادته ولو حصل له بسببها مائة درهم أو أكثر كأن يدعي صاحبنا على فاجر بمائة درهم فيجحده ثم تتفق للفاجر خصومة أخرى فيجيء إلى صاحبنا فيقول له أنت تعرف هذه القضية فاحضر فاشهد بما تعلم، فيقول صاحبنا نعم أنا أعرفها ولكنك ظلمتني مائة درهم فأدها إلي إن أردت أن أشهد، فيدفع له مائة درهم فيذهب فيشهد، فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته، وفي أصحابنا من لو ائتمن على مئات الدراهم ثم بعد مدة ادعى ما يحتمل من تلفها أو أنه ردها على صاحبها الذي قد مات لما اتهمناه، نعم قد يتهمه من لا يعرفه كمعرفتنا، أو من لا يعرف قدر تأثير الموانع عن الخيانة في نفس من قامت به، فالفاسق المتهتك لا يعرف قدر العدالة فتراه يتهم العدول ولا يكاد يعرف عدالتهم ولو كانوا جيرانه.
فان قيل يكفي في التعليل أن مظنة التهمة ولا يضر تخلفها في بعض الأفراد كما قالوا في قصر الصلاة في السفر أنه لأجل المشقة وإن تخلفت المشقة في بعض المسافرين كالملك المترفه قلت العلة في قصر الصلاة هي السفر بشرطه لا المشقة فكذلك تكون العله في رد الشهادة للنفس هي إنها شهادة للنفس أو دعوى كما يومئ إليه حديث ((لو يعطي الناس بدعواهم لا دعي ناس دماء رجال وأموالهم ... )) (1)
فعلى هذا لا يتأتى القياس، ألا ترى أن في أعمال العمال المقيمين ما مشقته أشد من مشقة السفر العادي، ذلك كالعمل في المناجم ونحوها ومع ذلك ليس لهم أن يقصروا الصلاة. فإن قيل الشهادة للأصل والفرع مظنة للتهمة كما أن الشهادة مظنة لها، قلت فالعمل في المناجم مظنة للمشقة، بل المشقة فيه أشق وأغلب، والتهمة في الشهادة للأصل أو الفرع أضعف وأقل من التهمة في الشهادة للنفس، وقد يكون الرجل منفرداً عن أصله أو فرعه وبينهما عدواة.
والشافعي ممن يقول برد الشهادة للأصل والفرع ولم يعرج على التهمة ولكنه لما علم أن
__________
(1) أخرجه الشيخان في ((صحيحيها)) واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً. ن

الصفحة 40