كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 1)

الكلام معه إن شاء الله تعالى. ولابن قتيبة في كتاب (تأويل مختلف الحديث) كلام حاصله أن المبتدع الصادق المقبول لا يقبل منه ما يقوي بدعته، ويقبل منه ما عدا ذلك قال: ((وإنما يمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه أن نفسه تريه أن الحق فيما اعتقده وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه، ولا يؤمن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص)) كذا قال، واحتج بأن شهادة العدل لا تقبل لنفسه وأصله وفرعه، وقد مر الجواب عن ذلك، ولا أدري كيف ينعت بالصادق من لا يؤمن منه تعمد التحريف والزيادة والنقص؟ وإنما يستحق النعت بالصادق من يوثق بتقواه وبأنه مهما التبس عليه من الحق فلن يلتبس عليه أن الكذب بأي وجه كان مناف للتقوى، مجانب للإيمان.
ولا ريب أن فيمن يتسم بإصلاح من المبتدعة وكذا من أهل السنة من يقع في الكذب إما تقحماً في الباطل، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق، ولا يختص ذلك بالعقائد بل وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها كما يعلم من مراجعة كتب الموضوعات، وأعداء الإسلام، وأعداء السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شؤون دنياهم الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء ويبنون عليه أموراً عظاماً، ولم يزل الناس يغشون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز وغيرها، ولم يحل ذلك دون معرفة الصحيح، والخالق الذي هيأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإسلام وتكفل بحفظه إلى الأبد وعنايته بحفظ الدين أشد وأكد لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.
ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها، وفي (تهذيب التهذيب) ج 1 ص 152: ((قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقاً فأراد قتله فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له: أين أنت يا عدو الله

الصفحة 47