كتاب التنكيل - دار المعارف (اسم الجزء: 1)

متبحرون متيقظون يتحرزون من الخطأ جهدهم لكنهم متفاوتون في ذلك. وهما بلغ الحاكم من التحري فإنه لا يبلغ أن تكون أحكامه كلها مطابقة لما في نفس الأمر. فقد تسمع رجلاً يخبر ثم تمضي مدة فترى أن الذي سمعت منه هو فلان، وأن الخبر الذي سمعته منه هو كيت وكيت، وأن معناه كذا، وأن ذاك المعنى باطل وأن المخبر تعمد الإخبار بالباطل، وأنه لم يكن له عذر وأن مثل ذلك يوجب الجرح. فمن المحتمل أن يشتبه عليك رجل بآخر فترى أن المخبر وإنما هو غيره وأن تخطيء في فهم المعنى، أو في ظن أنه باطل، أو أن المخبر تعمد، أو أنه لم يكن له عذر، أو أن مثل ذلك يوجب الجرح إلى غير ذلك. وغالب الأحكام إنما تبني على غلبة الظن، والظن قد يخطئ، والظنون تتفاوت، فمن الظنون المعتد بها ما له ضابط شرعي، كخبر الثقة، ومنها ما ضابطه أن تطمئن إليه نفس العارف المتوقي المتثبت بحيث يجزم بالإخبار بمقتضاه طيب النفس منشرح الصدر، فمن الناس من يغتر بالظن الضعيف فيجزم، وهذا هو الذي يطعن أئمة الحديث في حفظه وضبطه فيقولون: ((يحدث على التوهم - كثير الوهم - كثير الخطأ - يهم - يخطئ)) ومنهم لمعتدل، ومنهم البالغ التثبت. كان في اليمن في قضاء الحجرية قاض كان يجتمع إليه أهل العلم ويتذاكرون وكنت أحضر مع أخي فلاحظت أن ذلك القاضي مع أنه أعلم الجماعة فيما أرى لا يكاد يجزم في مسألة، وإنما يقول: ((في حفظي كذا، في ذهني كذا)) ونحو ذلك فعلمت أنه ألزم نفسه تلك العادة حتى فيما يجزم به، حتى إذا اتفق أن أخطأ كان عذره بغاية الوضوح، وفي ثقات المحدثين مع هو أبلغ تحرياً من هذا ولكنهم يعلمون أن الحجة إنما تقوم بالجزم، فكانوا يجزمون فيما لا يرون للشك فيه مدخلاً، ويقفون عن الجزم لأدنى احتمال، روي أن شعبة سأل أيوب السختياني عن حديث فقال: أشك فيه، فقال شعبة: شكك أحب إلي من يقين غيرك. وقال النضر بن شميل عن شعبة لأن أسمع من ابن عون حديثاً يقول فيه ((أظن أنه سمعته أحب إليَّ من أن أسمع من ثقة غيره يقول: قد سمعت. وعن شعبة قال: ((شك ابن عون وسليمان التيمي يقين)).
وذكر يعقوب بن سفيان حماد بن زيد فقال: معروف بأنه يقصر في الأسانيد ويوقف المرفوع

الصفحة 55