كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

فعلته ابْتِدَاء (وَبَدَأَ الله الْخلق) وابدأهم بِمَعْنى وبدا بِغَيْر همز فِي آخِره مَعْنَاهُ ظهر تَقول بدا الْأَمر بدوا مثل قعد قعُودا أَي ظهر وأبديته أظهرته وَقَالَ القَاضِي عِيَاض روى بِالْهَمْز مَعَ سُكُون الدَّال من الِابْتِدَاء وَبِغير همز مَعَ ضم الدَّال وَتَشْديد الْوَاو من الظُّهُور وَبِهَذَا يرد على من قَالَ لم تَجِيء الرِّوَايَة بِالْوَجْهِ الثَّانِي فَالْمَعْنى على الأول كَيفَ كَانَ ابتداؤه وعَلى الثَّانِي كَيفَ كَانَ ظُهُوره وَقَالَ بَعضهم الْهَمْز أحسن لِأَنَّهُ يجمع الْمَعْنيين وَقيل الظُّهُور أحسن لِأَنَّهُ أَعم وَفِي بعض الرِّوَايَات بَاب كَيفَ كَانَ ابْتِدَاء الْوَحْي. وَالْوَحي فِي الأَصْل الْإِعْلَام فِي خَفَاء قَالَ الْجَوْهَرِي الْوَحْي الْكتاب وَجمعه وَحي مثل حلى وحلى قَالَ لبيد
(فمدافع الريان عرى رسمها ... خلقا كَمَا ضمن الْوَحْي سلامها)
وَالْوَحي أَيْضا الْإِشَارَة وَالْكِتَابَة والرسالة والإلهام وَالْكَلَام الْخَفي وكل مَا أَلقيته إِلَى غَيْرك يُقَال وحيت إِلَيْهِ الْكَلَام وأوحيت وَهُوَ أَن تكَلمه بِكَلَام تخفيه قَالَ العجاج وحى لَهَا الْقَرار فاستقرت ويروى أوحى لَهَا ووحى وَأوحى أَيْضا كتب قَالَ العجاج حَتَّى نحاهم جدنا والناحي لقدر كَانَ وحاه الواحي. وَأوحى الله تَعَالَى إِلَى أنبيائه وَأوحى أَشَارَ قَالَ تَعَالَى {فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوه بكرَة وعشيا} ووحيت إِلَيْك بِخَبَر كَذَا أَي أَشرت وَقَالَ الإِمَام أَبُو عبد الله التَّيْمِيّ الْأَصْبَهَانِيّ الْوَحْي أَصله التفهيم وكل مَا فهم بِهِ شَيْء من الْإِشَارَة والإلهام والكتب فَهُوَ وَحي قيل فِي قَوْله تَعَالَى {فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا} أَي أَشرت وَقَالَ الإِمَام أَي كتب وَقَوله تَعَالَى {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} أَي الْهم وَأما الْوَحْي بِمَعْنى الْإِشَارَة فَكَمَا قَالَ الشَّاعِر
(يرْمونَ بالخطب الطوَال وَتارَة ... وحى الملاحظ خيفة الرقباء)
وَأوحى ووحى لُغَتَانِ وَالْأولَى أفْصح وَبهَا ورد الْقُرْآن وَقد يُطلق وَيُرَاد بهَا اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ أَي الموحى وَفِي اصْطِلَاح الشَّرِيعَة هُوَ كَلَام الله الْمنزل على نَبِي من أنبيائه وَالرَّسُول عرفه كثير مِنْهُم بِمن جمع إِلَى المعجزة الْكتاب الْمنزل عَلَيْهِ وَهَذَا تَعْرِيف غير صَحِيح لِأَنَّهُ يلْزم على هَذَا أَن يخرج جمَاعَة من الرُّسُل عَن كَونهم رسلًا كآدم ونوح وَسليمَان عَلَيْهِم السَّلَام فَإِنَّهُم رسل بِلَا خلاف وَلم ينزل عَلَيْهِم كتاب وَكَذَا قَالَ صَاحب الْبِدَايَة الرَّسُول هُوَ النَّبِي الَّذِي مَعَه كتاب كموسى عَلَيْهِ السَّلَام وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي ينبىء عَن الله تَعَالَى وَإِن لم يكن مَعَه كتاب كيوشع عَلَيْهِ السَّلَام وَتَبعهُ على ذَلِك الشَّيْخ قوام الدّين وَالشَّيْخ أكمل الدّين فِي شرحيهما والتعريف الصَّحِيح أَن الرَّسُول من نزل عَلَيْهِ كتاب أَو أَتَى إِلَيْهِ ملك وَالنَّبِيّ من يوقفه الله تَعَالَى على الْأَحْكَام أَو يتبع رَسُولا آخر فَكل رَسُول نَبِي من غير عكس قَوْله وَقَول الله تَعَالَى القَوْل مَا ينْطق بِهِ اللِّسَان تَاما كَانَ أَو نَاقِصا وَيُطلق على الْكَلَام والكلم والكلمة وَيُطلق مجَازًا على الرَّأْي والاعتقاد كَقَوْلِك فلَان يَقُول بقول أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَيذْهب إِلَى قَول مَالك وَيسْتَعْمل فِي غير النُّطْق قَالَ أَبُو النَّجْم
(قَالَت لَهُ الطير تقدم راشدا ... إِنَّك لَا ترجع إِلَّا حامدا)
وَمِنْه قَوْله عز وَجل {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} وَقَوله تَعَالَى {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} قَوْله من بعده بعد نقيض قبل وهما اسمان يكونَانِ ظرفين إِذا أضيفا وأصلهما الْإِضَافَة فَمَتَى حذفت الْمُضَاف إِلَيْهِ لعلم الْمُخَاطب بنيتهما على الضَّم ليعلم أَنه مَبْنِيّ إِذا كَانَ الضَّم لَا يدخلهما إعرابا لِأَنَّهُمَا لَا يصلح وقوعهما موقع الْفَاعِل وَلَا موقع الْمُبْتَدَأ وَلَا الْخَبَر فَافْهَم (بَيَان الصّرْف) كَيفَ لَا يتَصَرَّف لِأَنَّهُ جامد والبدء مصدر من بدأت الشَّيْء كَمَا مر وَالْوَحي كَذَلِك من وحيت إِلَيْهِ وَحيا وَهَهُنَا اسْم فَافْهَم ومصدر أوحى إيحاء وَالرَّسُول صفة مشبهة يُقَال أرْسلت فلَانا فِي رِسَالَة فَهُوَ مُرْسل وَرَسُول وَهَذِه صِيغَة يَسْتَوِي فِيهَا الْوَاحِد وَالْجمع والمذكر والمؤنث مثل عَدو وصديق قَالَ عز وَجل {إِنَّا رَسُول رب الْعَالمين} وَلم يقل أَنا رسل لِأَن فعيلا وفعولا يَسْتَوِي فيهمَا هَذِه الْأَشْيَاء وَفِي الْعباب الرَّسُول الْمُرْسل وَالْجمع رسل ورسل ورسلاء

الصفحة 14