كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
حَال تَقول هَذَا امْرُؤ وَرَأَيْت امْرأ ومررت بامرىء مُعرب من مكانين. الثَّانِيَة فتح الرَّاء على كل حَال. الثَّالِثَة ضمهَا على كل حَال فَإِن حذفت ألف الْوَصْل قلت هَذَا مرء وَرَأَيْت مرأ ومررت بمرء وَجمعه من غير لَفظه رجال أَو قوم قَوْله مَا نوى أَي الَّذِي نَوَاه فكلمة مَا مَوْصُولَة وَنوى صلتها والعائد مَحْذُوف أَي نَوَاه فَإِن جعلت مَا مَصْدَرِيَّة لَا تحْتَاج إِلَى حذف إِذْ مَا المصدرية عِنْد سِيبَوَيْهٍ حرف والحروف لَا تعود عَلَيْهَا الضمائر وَالتَّقْدِير لكل امرىء نِيَّته قَوْله فَمن كَانَت هجرته الْفَاء هَهُنَا لعطف الْمفصل على الْمُجْمل لِأَن قَوْله فَمن كَانَت هجرته إِلَى آخِره تَفْصِيل لما سبق من قَوْله إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امرىء مَا نوى قَوْله إِلَى دنيا مُتَعَلق بِالْهِجْرَةِ إِن كَانَت لَفْظَة كَانَت تَامَّة أَو خبر لكَانَتْ إِن كَانَت نَاقِصَة قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت لفظ كَانَت إِن كَانَ بَاقِيا فِي الْمُضِيّ فَلَا يعلم أَن الحكم بعد صُدُور هَذَا الْكَلَام من الرَّسُول أَيْضا كَذَلِك أم لَا وَإِن نقل بِسَبَب تضمين من لحرف الشَّرْط إِلَى معنى الِاسْتِقْبَال فبالعكس فَفِي الْجُمْلَة الحكم إِمَّا للماضي أَو للمستقبل قلت جَازَ أَن يُرَاد بِهِ أصل الْكَوْن أَي الْوُجُود مُطلقًا من غير تَقْيِيد بِزَمَان من الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة أَو يُقَاس أحد الزمانين على الآخر أَو يعلم من الْإِجْمَاع على أَن حكم الْمُكَلّفين على السوَاء أَنه لَا تعَارض انْتهى قلت فِي الْجَواب الأول نظر لَا يخفى لِأَن الْوُجُود من حَيْثُ هُوَ هُوَ لَا يَخْلُو عَن زمن من الْأَزْمِنَة الثَّلَاثَة قَوْله يُصِيبهَا جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لدُنْيَا وَكَذَلِكَ قَوْله يَتَزَوَّجهَا قَوْله فَهجرَته الْفَاء فِيهِ هِيَ الْفَاء الرابطة للجواب لسبق الشَّرْط وَذَلِكَ لِأَن قَوْله هجرته خبر والمبدأ أَعنِي قَوْله فَمن كَانَت يتَضَمَّن الشَّرْط قَوْله إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ إِمَّا أَن يكون مُتَعَلقا بِالْهِجْرَةِ وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي هجرته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ غير صَحِيحَة أَو غير مَقْبُولَة وَإِمَّا أَن يكون خبر فَهجرَته وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الَّذِي هُوَ من كَانَت لَا يُقَال الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر بِحَسب الْمَفْهُوم متحدان فَمَا الْفَائِدَة فِي الْإِخْبَار لأَنا نقُول يَنْتَفِي الِاتِّحَاد هَهُنَا لِأَن الْجَزَاء مَحْذُوف وَهُوَ فَلَا ثَوَاب لَهُ عِنْد الله وَالْمَذْكُور مُسْتَلْزم لَهُ دَال عَلَيْهِ أَو التَّقْدِير فَهِيَ هِجْرَة قبيحة فَإِن قلت فَمَا الْفَائِدَة حِينَئِذٍ فِي الْإِتْيَان بالمبتدأ وَالْخَبَر بالاتحاد وَكَذَا فِي الشَّرْط وَالْجَزَاء قلت يعلم مِنْهُ التَّعْظِيم نَحْو أَنا أَنا وشعري شعري وَمن هَذَا الْقَبِيل فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَإِلَى رَسُوله وَقد يقْصد بِهِ التحقير نَحْو قَوْله فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ وَقدر أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي فَمن كَانَت هجرته نِيَّة وقصدا فَهجرَته حكما وَشرعا وَاسْتحْسن بَعضهم هَذَا التَّأْوِيل وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء لِأَنَّهُ على هَذَا التَّقْدِير يفوت الْمَعْنى الْمشعر على التَّعْظِيم فِي جَانب والتحقير فِي جَانب وهما مقصودان فِي الحَدِيث. (بَيَان الْمعَانِي) قَوْله إِنَّمَا للحصر وَهُوَ إِثْبَات الحكم للمذكور ونفيه عَمَّا عداهُ وَقَالَ أهل الْمعَانِي وَمن طرق الْقصر إِنَّمَا وَالْقصر تَخْصِيص أحد الْأَمريْنِ بِالْآخرِ وحصره فِيهِ وَإِنَّمَا يُفِيد إِنَّمَا معنى الْقصر لتَضَمّنه معنى مَا وَإِلَّا من وُجُوه ثَلَاثَة الأول قَول الْمُفَسّرين فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة} بِالنّصب مَعْنَاهُ مَا حرم عَلَيْكُم إِلَّا الْميتَة وَهُوَ مُطَابق لقِرَاءَة الرّفْع لِأَنَّهَا تَقْتَضِي انحصار التَّحْرِيم على الْميتَة بِسَبَب أَن مَا فِي قِرَاءَة الرّفْع يكون مَوْصُولا صلته حرم عَلَيْكُم وَاقعا اسْما لِأَن أَي أَن الَّذِي حرمه عَلَيْكُم الْميتَة فَحذف الرَّاجِع إِلَى الْمَوْصُول فَيكون فِي معنى أَن الْمحرم عَلَيْكُم الْميتَة وَهُوَ يُفِيد الْحصْر كَمَا أَن المنطلق زيد وَزيد المنطلق كِلَاهُمَا يَقْتَضِي انحصار الانطلاق على زيد الثَّانِي قَول النُّحَاة أَن إِنَّمَا لإِثْبَات مَا يذكر بعده وَنفى مَا سواهُ الثَّالِث صِحَة انْفِصَال الضَّمِير مَعَه كصحته مَعَ مَا وَإِلَّا فَلَو لم يكن إِنَّمَا متضمنة لِمَعْنى مَا وَإِلَّا لم يَصح انْفِصَال الضَّمِير مَعَه وَلِهَذَا قَالَ الفرزدق أَنا الذائد الحامي الزمار وَإِنَّمَا يدافع عَن احسابهم أَنا أَو مثلي ففصل الضَّمِير وَهُوَ أَنا مَعَ إِنَّمَا حَيْثُ لم يقل وَإِنَّمَا أدافع كَمَا فصل عَمْرو بن معدي كرب مَعَ إِلَّا فِي قَوْله
(قد علمت سلمى وجاراتها ... مَا قطر الْفَارِس إِلَّا أَنا)
وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ قَول الْمُحَقِّقين ثمَّ اخْتلفُوا فَقيل إفادته لَهُ بالمنطوق وَقيل بِالْمَفْهُومِ وَقَالَ بعض الْأُصُولِيِّينَ إِنَّمَا لَا تفِيد إِلَّا التَّأْكِيد وَنقل صَاحب الْمِفْتَاح عَن أبي عِيسَى الربعِي أَنه لما كَانَت كلمة أَن لتأكيد إِثْبَات الْمسند للمسند إِلَيْهِ ثمَّ اتَّصَلت بهَا مَا الْمُؤَكّدَة الَّتِي تزاد للتَّأْكِيد كَمَا فِي حَيْثُمَا لَا النافية على مَا يَظُنّهُ من لَا وقُوف لَهُ على علم النَّحْو ضاعفت تأكيدها فَنَاسَبَ أَن يضمن معنى الْقصر أَي معنى مَا وَإِلَّا لِأَن الْقصر لَيْسَ إِلَّا لتأكيد الحكم على تَأْكِيد أَلا تراك مَتى قلت لمخاطب يردد الْمَجِيء
الصفحة 25
332