كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)

فِي النّخل وَالرُّمَّان فَحِينَئِذٍ يكون ذكرهمَا بعد ذكر الْفَاكِهَة من قبيل عطف الْخَاص على الْعَام فَعلمت أَن هَذَا الْقَائِل هُوَ الغالط إِن قلت أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لم يَجْعَلهَا من الْفَاكِهَة حَتَّى لَو حلف لَا يَأْكُل فَاكِهَة فَأكل رطبا أَو رمانا أَو عنبا لم يَحْنَث قلت أَبُو حنيفَة لم يخرجهما من الْفَاكِهَة بِالْكُلِّيَّةِ بل إِنَّمَا قَالَ إِن هَذِه الْأَشْيَاء إِنَّمَا يتغذى بهَا أَو يتداوى بهَا فَأوجب قصورا فِي معنى التفكه للاستعمال فِي حَاجَة الْبَقَاء وَلِهَذَا كَانَ النَّاس يعدونها من التوابل أَو من الأقوات الثَّالِث مَا قَالَه ابْن بطال عَن ابْن سراج أَنه إِنَّمَا خص الْمَرْأَة بِالذكر من بَين سَائِر الْأَشْيَاء فِي هَذَا الحَدِيث لِأَن الْعَرَب كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة لَا تزوج الْمولى الْعَرَبيَّة وَلَا يزوجون بناتهم إِلَّا من الْأَكفاء فِي النّسَب فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام سوى بَين الْمُسلمين فِي مناكحهم وَصَارَ كل وَاحِد من الْمُسلمين كُفؤًا لصَاحبه فَهَاجَرَ كثير من النَّاس إِلَى الْمَدِينَة ليتزوج بهَا حَتَّى سمى بَعضهم مهَاجر أم قيس الرَّابِع أَن هَذَا الحَدِيث ورد على سَبَب وَهُوَ أَنه لما أَمر بِالْهِجْرَةِ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة تخلف جمَاعَة عَنْهَا فذمهم الله تَعَالَى بقوله {إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم قَالُوا فيمَ كُنْتُم} الْآيَة وَلم يُهَاجر جمَاعَة لفقد استطاعتهم فعذرهم واستثناهم بقوله {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال} الْآيَة وَهَاجَر المخلصون إِلَيْهِ فمدحهم فِي غير مَا مَوضِع من كِتَابه وَكَانَ فِي الْمُهَاجِرين جمَاعَة خَالَفت نيتهم نِيَّة المخلصين. مِنْهُم من كَانَت نِيَّته تزوج امْرَأَة كَانَت بِالْمَدِينَةِ من الْمُهَاجِرين يُقَال لَهَا أم قيس وَادّعى ابْن دحْيَة أَن اسْمهَا قيلة فَسمى مهَاجر أم قيس وَلَا يعرف اسْمه فَكَانَ قَصده بِالْهِجْرَةِ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة نِيَّة التَّزَوُّج بهَا لَا لقصد فَضِيلَة الْهِجْرَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك وَبَين مَرَاتِب الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ فَلهَذَا خص ذكر الْمَرْأَة دون سَائِر مَا ينوى بِهِ الْهِجْرَة من أَفْرَاد الْأَغْرَاض الدُّنْيَوِيَّة لأجل تبين السَّبَب لِأَنَّهَا كَانَت أعظم أَسبَاب فتْنَة الدُّنْيَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تركت بعدِي فتْنَة أضرّ على الرِّجَال من النِّسَاء وَذكر الدُّنْيَا مَعهَا من بَاب زِيَادَة النَّص على السَّبَب كَمَا أَنه لما سُئِلَ عَن طهورية مَاء الْبَحْر زَاد حل ميتَته وَيحْتَمل أَن يكون هَاجر لمالها مَعَ نِكَاحهَا وَيحْتَمل أَنه هَاجر لنكاحها وَغَيره لتَحْصِيل دنيا من جِهَة مَا فَعرض بهَا السُّؤَال الرَّابِع مَا قيل لم ذمّ على طلب الدُّنْيَا وَهُوَ أَمر مُبَاح والمباح لَا ذمّ فِيهِ وَلَا مدح وَأجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا ذمّ لكَونه لم يخرج فِي الظَّاهِر لطلب الدُّنْيَا وَإِنَّمَا خرج فِي صُورَة طَالب فَضِيلَة الْهِجْرَة فأبطن خلاف مَا أظهر السُّؤَال الْخَامِس مَا قيل أَنه أعَاد فِي الْجُمْلَة الأولى مَا بعد الْفَاء الْوَاقِعَة جَوَابا للشّرط مثل مَا وَقعت فِي صدر الْكَلَام وَلم يعد كَذَلِك فِي الْجُمْلَة الثَّانِيَة وَأجِيب بِأَن ذَلِك للإعراض عَن تَكْرِير ذكر الدُّنْيَا والغض مِنْهَا وَعدم الاحتفال بأمرها بِخِلَاف الأولى فَإِن التكرير فِيهَا ممدوح
(أعد ذكر نعْمَان لنا أَن ذكره ... هُوَ الْمسك مَا كررته يتضوع)
السُّؤَال السَّادِس مَا قيل أَن النيات جمع قلَّة كالأعمال وَهِي للعشرة فَمَا دونهَا لَكِن الْمَعْنى أَن كل عمل إِنَّمَا هُوَ بنية سَوَاء كَانَ قَلِيلا أَو كثيرا أُجِيب بِأَن الْفرق بالقلة وَالْكَثْرَة إِنَّمَا هُوَ فِي النكرات لَا فِي المعارف (بَيَان السَّبَب والمورد) اشْتهر بَينهم أَن سَبَب هَذَا الحَدِيث قصَّة مهَاجر أم قيس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي المعجم الْكَبِير بِإِسْنَاد رِجَاله ثِقَات عَن أبي وَائِل عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ فِينَا رجل خطب امْرَأَة يُقَال لَهَا أم قيس فَأَبت أَن تتزوجه حَتَّى يُهَاجر فَهَاجَرَ فَتَزَوجهَا فَكُنَّا نُسَمِّيه مهَاجر أم قيس فَإِن قيل ذكر أَبُو عمر فِي الِاسْتِيعَاب فِي تَرْجَمَة أم سليم أَن أَبَا طَلْحَة الْأنْصَارِيّ خطبهَا مُشْركًا فَلَمَّا علم أَنه لَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ أسلم وَتَزَوجهَا وَحسن إِسْلَامه وَهَكَذَا روى النَّسَائِيّ من حَدِيث أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ تزوج أَبُو طَلْحَة أم سليم فَكَانَ صدَاق مَا بَينهمَا الْإِسْلَام إِذْ أسلمت أم سليم قبل أبي طَلْحَة فَخَطَبَهَا فَقَالَت إِنِّي قد أسلمت فَإِن أسلمت نكحتك فَأسلم فَكَانَ الْإِسْلَام صدَاق مَا بَينهمَا بوب عَلَيْهِ النَّسَائِيّ التَّزْوِيج على الْإِسْلَام. وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيثه قَالَ خطب أَبُو طَلْحَة أم سليم فَقَالَت وَالله مَا مثلك يَا أَبَا طَلْحَة يرد وَلَكِنَّك رجل كَافِر وَأَنا امْرَأَة مسلمة وَلَا يحل لي أَن أتزوجك فَإِن تسلم فَذَاك مهري وَلَا أَسأَلك

الصفحة 28