كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
مَحْذُوف من الصِّحَّة أَو الْكَمَال أَو الثَّوَاب إِذْ الْإِضْمَار خلاف الأَصْل وَإِنَّمَا حَقِيقَته الْعَمَل الشَّرْعِيّ فَلَا يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى إِضْمَار وَأَيْضًا فَلَا بُد من إِضْمَار يتَعَلَّق بِهِ الْجَار وَالْمَجْرُور فَلَا حَاجَة إِلَى إِضْمَار مُضَاف لِأَن تقليل الْإِضْمَار أولى فَيكون التَّقْدِير إِنَّمَا الْأَعْمَال وجودهَا بِالنِّيَّةِ وَيكون المُرَاد الْأَعْمَال الشَّرْعِيَّة قلت لَا نسلم نفي الِاحْتِيَاج إِلَى إِضْمَار مَحْذُوف لِأَن الحَدِيث مَتْرُوك الظَّاهِر بِالْإِجْمَاع والذوات لَا تَنْتفِي بِلَا خلاف فَحِينَئِذٍ يحْتَاج إِلَى إِضْمَار وَإِنَّمَا يكون الْإِضْمَار خلاف الأَصْل عِنْد عدم الِاحْتِيَاج فَإِذا كَانَ الدَّلِيل قَائِما على الْإِضْمَار يضمر إِمَّا الصِّحَّة وَإِمَّا الثَّوَاب على اخْتِلَاف الْقَوْلَيْنِ وَقَوْلهمْ فَيكون التَّقْدِير إِنَّمَا الْأَعْمَال وجودهَا بِالنِّيَّةِ مفض إِلَى بَيَان اللُّغَة لَا إِثْبَات الحكم الشَّرْعِيّ وَهُوَ بَاطِل الثَّانِي أَنه لَا يلْزم من تَقْدِير الصِّحَّة تَقْدِير مَا يَتَرَتَّب على نَفيهَا من نفي الثَّوَاب وَوُجُوب الْإِعَادَة وَغير ذَلِك فَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يقدر إِنَّمَا صِحَة الْأَعْمَال وَالثَّوَاب وَسُقُوط الْقَضَاء مثلا بِالنِّيَّةِ بل الْمُقدر وَاحِد وَإِن ترَتّب على ذَلِك الْوَاحِد شَيْء آخر فَلَا يلْزم تَقْدِيره قلت دَعْوَى عدم الْمُلَازمَة الْمَذْكُورَة مَمْنُوعَة لِأَنَّهُ يلْزم من نفي الصِّحَّة نفي الثَّوَاب وَوُجُوب الْإِعَادَة كَمَا يلْزم الثَّوَاب عِنْد وجود الصِّحَّة يفهم ذَلِك بِالنّظرِ الثَّالِث أَن قَوْلهم أَن تَقْدِير الصِّحَّة يُؤَدِّي إِلَى نسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرِيدُوا بِهِ أَن الْكتاب دَال على صِحَة الْعَمَل بِغَيْر نِيَّة لكَونهَا لم تذكر فِي الْكتاب فَهَذَا لَيْسَ بنسخ على أَن الْكتاب ذكرت فِيهِ نِيَّة الْعَمَل فِي قَوْله عز وَجل {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} فَهَذَا هُوَ الْقَصْد وَالنِّيَّة وَلَو سلم لَهُم أَن فِيهِ نسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد فَلَا مَانع من ذَلِك عِنْد أَكثر أهل الْأُصُول قلت قَوْلهم فَهَذَا لَيْسَ بنسخ غير صَحِيح لِأَن هَذَا عين النّسخ. بَيَانه أَن آيَة الْوضُوء تخبر بِوُجُوب غسل الْأَعْضَاء الثَّلَاثَة وَمسح الرَّأْس وَلَيْسَ فِيهَا مَا يشْعر بِالنِّيَّةِ مُطلقًا فاشتراطها بِخَبَر الْوَاحِد يُؤَدِّي إِلَى رفع الْإِطْلَاق وتقييده وَهُوَ نسخ وَقَوْلهمْ على أَن الْكتاب ذكر فِيهِ نِيَّة الْعَمَل لَا يضرهم لِأَن المُرَاد من قَوْله {إِلَّا ليعبدوا الله} التَّوْحِيد وَالْمعْنَى إِلَّا ليوحدوا الله فَلَيْسَ فِيهَا دلَالَة على اشْتِرَاط النِّيَّة فِي الْوضُوء وَقَوْلهمْ وَلَو سلم لَهُم إِلَى آخِره غير مُسلم لَهُم لِأَن جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ على عدم جَوَاز نسخ الْكتاب بالْخبر الْوَاحِد على أَن الْمَنْقُول الصَّحِيح عَن الشَّافِعِي عدم جَوَاز نسخ الْكتاب بِالسنةِ قولا وَاحِدًا وَهُوَ مَذْهَب أهل الحَدِيث أَيْضا وَله فِي نسخ السّنة بِالْكتاب قَولَانِ الْأَظْهر من مذْهبه أَنه لَا يجوز وَالْآخر أَنه يجوز وَهُوَ الأولى بِالْحَقِّ كَذَا ذكره السَّمْعَانِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي القواطع ثمَّ نقُول أَن الحَدِيث عَام مَخْصُوص فَإِن أَدَاء الدّين ورد الودائع وَالْأَذَان والتلاوة والأذكار وهداية الطَّرِيق وإماطة الْأَذَى عبادات كلهَا تصح بِلَا نِيَّة إِجْمَاعًا فتضعف دلَالَته حِينَئِذٍ وَيخْفى عدم اعْتِبَارهَا أَيْضا فِي الْوضُوء وَقد قَالَ بعض الشَّارِحين دَعْوَى الصِّحَّة فِي هَذِه الْأَشْيَاء بِلَا نِيَّة إِجْمَاعًا مَمْنُوعَة حَتَّى يثبت الْإِجْمَاع وَلنْ يقدر عَلَيْهِ ثمَّ نقُول النِّيَّة تلازم هَذِه الْأَعْمَال فَإِن مؤدي الدّين يقْصد بَرَاءَة الذِّمَّة وَذَلِكَ عبَادَة وَكَذَلِكَ الْوَدِيعَة وَأَخَوَاتهَا فَإِنَّهَا لَا يَنْفَكّ تعاطيهن عَن الْقَصْد وَذَلِكَ نِيَّة قلت هَذَا كُله صادر لَا عَن تعقل لِأَن أحدا من السّلف وَالْخلف لم يشْتَرط النِّيَّة فِي هَذِه الْأَعْمَال فَكيف لَا يكون إِجْمَاعًا وَقَوله النِّيَّة تلازم هَذِه الْأَعْمَال إِلَى آخِره لَا تعلق لَهُ فِيمَا نَحن فِيهِ فَإنَّا لَا ندعي عدم وجود النِّيَّة فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَإِنَّمَا ندعي عدم اشْتِرَاطهَا ومؤدي الدّين مثلا إِذا قصد بَرَاءَة الذِّمَّة بَرِئت ذمَّته وَحصل لَهُ الثَّوَاب وَلَيْسَ لنا فِيهِ نزاع وَإِذا أدّى من غير قصد بَرَاءَة الذِّمَّة هَل يَقُول أحد أَن ذمَّته لم تَبرأ ثمَّ التَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام هُوَ أَن هَذَا الْكَلَام لما دلّ عقلا على عدم إِرَادَة حَقِيقَته إِذْ قد يحصل الْعَمَل من غير نِيَّة بل المُرَاد بِالْأَعْمَالِ حكمهَا بِاعْتِبَار إِطْلَاق الشَّيْء على أَثَره وموجبه وَالْحكم نَوْعَانِ نوع يتَعَلَّق بِالآخِرَة وَهُوَ الثَّوَاب فِي الْأَعْمَال المفتقرة إِلَى النِّيَّة وَالْإِثْم فِي الْأَعْمَال الْمُحرمَة وَنَوع يتَعَلَّق بالدنيا وَهُوَ الْجَوَاز وَالْفساد وَالْكَرَاهَة والإساءة وَنَحْو ذَلِك والنوعان مُخْتَلِفَانِ بِدَلِيل أَن مبْنى الأول على صدق الْعَزِيمَة وخلوص النِّيَّة فَإِن وجد وجد الثَّوَاب وَإِلَّا فَلَا ومبنى الثَّانِي على وجود الْأَركان والشرائط الْمُعْتَبرَة فِي الشَّرْع حَتَّى لَو وجدت صَحَّ وَإِلَّا فَلَا سَوَاء اشْتَمَل على صدق الْعَزِيمَة أَولا وَإِذا صَار اللَّفْظ مجَازًا عَن النَّوْعَيْنِ الْمُخْتَلِفين كَانَ مُشْتَركا بَينهمَا بِحَسب الْوَضع النوعي فَلَا يجوز إرادتهما جَمِيعًا أما عندنَا فَلِأَن الْمُشْتَرك لَا عُمُوم لَهُ وَأما عِنْد الشَّافِعِي فَلِأَن الْمجَاز لَا عُمُوم لَهُ بل يجب حمله على أحد النَّوْعَيْنِ فَحَمله الشَّافِعِي على النَّوْع الثَّانِي بِنَاء على أَن الْمَقْصُود الأهم من بعثة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيَان الْحل وَالْحُرْمَة وَالصِّحَّة وَالْفساد وَنَحْو ذَلِك فَهُوَ أقرب إِلَى الْفَهم فَيكون الْمَعْنى أَن صِحَة الْأَعْمَال لَا تكون إِلَّا بِالنِّيَّةِ فَلَا يجوز الْوضُوء بِدُونِهَا
الصفحة 31
332