كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 1)
فِي الذِّمِّيَّة غير الممتنعة اشْتِرَاط النِّيَّة عَلَيْهَا نَفسهَا وَمِنْهَا أَنهم قَالُوا لما علم أَن مَحل النِّيَّة الْقلب فَإِذا اقْتصر عَلَيْهِ جَازَ إِلَّا فِي الصَّلَاة على وَجه شَاذ لَهُم لَا يعبأ بِهِ وَإِن اقْتصر على اللِّسَان لم يجز إِلَّا فِي الزَّكَاة على وَجه شَاذ أَيْضا وَإِن جمع بَينهمَا فَهُوَ آكِد واشترطوا الْمُقَارنَة فِي جَمِيع النيات الْمُعْتَبرَة إِلَّا الصَّوْم للْمَشَقَّة وَإِلَّا الزَّكَاة فَإِنَّهُ يجوز تَقْدِيمهَا قبل وَقت إعطائها قيل وَالْكَفَّارَات فَإِنَّهُ يجوز تَقْدِيمهَا قبل الْفِعْل والشروع ثمَّ هَل يشْتَرط استحضار النِّيَّة أول كل عمل وَإِن قل وتكرر فعله مُقَارنًا لأوله فِيهِ مَذَاهِب أَحدهَا نعم وَثَانِيها يشْتَرط ذَلِك فِي أَوله وَلَا يشْتَرط إِذا تكَرر بل يَكْفِيهِ أَن يَنْوِي أول كل عمل وَلَا يشْتَرط تكرارها فِيمَا بعد وَلَا مقارنتها وَلَا الِاتِّصَال. وَثَالِثهَا يشْتَرط الْمُقَارنَة دون الِاتِّصَال. وَرَابِعهَا يشْتَرط الِاتِّصَال وَهُوَ أخص من الْمُقَارنَة وَهَذِه الْمذَاهب رَاجِعَة إِلَى أَن النِّيَّة جُزْء من الْعِبَادَة أَو شَرط لصحتها وَالْجُمْهُور على الأول وَلَا وَجه للثَّانِي. وَإِذا أشرك فِي الْعِبَادَة غَيرهَا من أَمر دُنْيَوِيّ أَو رِيَاء فَاخْتَارَ الْغَزالِيّ اعْتِبَار الْبَاعِث على الْعَمَل فَإِن كَانَ الْقَصْد الدنيوي هُوَ الْأَغْلَب لم يكن لَهُ فِيهِ أجر وَإِن كَانَ الْقَصْد الديني هُوَ الْأَغْلَب كَانَ لَهُ الْأجر بِقَدرِهِ وَإِن تَسَاويا تساقطا وَاخْتَارَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام أَنه لَا أجر فِيهِ مُطلقًا سَوَاء تساوى القصدان أَو اخْتلفَا وَقَالَ المحاسبي إِذا كَانَ الْبَاعِث الديني أقوى بَطل عمله وَخَالف فِي ذَلِك الْجُمْهُور. وَقَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ إِذا كَانَ ابْتِدَاء الْعَمَل لله لم يضرّهُ مَا عرض بعده فِي نَفسه من عجب. هَذَا قَول عَامَّة السّلف رَحِمهم الله الثَّانِي من الاستنباط احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد فِي أَن من أحرم بِالْحَجِّ فِي غير أشهر الْحَج أَنه لَا ينْعَقد عمْرَة لِأَنَّهُ لم ينوها فَإِنَّمَا لَهُ مَا نَوَاه وَهُوَ أحد أَقْوَال الشَّافِعِي إِلَّا أَن الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة قَالُوا ينْعَقد إِحْرَامه بِالْحَجِّ وَلكنه يكره وَلم يخْتَلف قَول الشَّافِعِي أَنه لَا ينْعَقد بِالْحَجِّ وَإِنَّمَا اخْتلف قَوْله هَل يتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعمرَة وَهُوَ قَوْله الْمُتَقَدّم أَو ينْعَقد إِحْرَامه عمْرَة وَهُوَ نَصه فِي الْمُخْتَصر وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فعلى القَوْل الأول لَا تسْقط عَنهُ عمْرَة الْإِسْلَام وعَلى القَوْل الَّذِي نَص عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصر تسْقط عَنهُ عمْرَة الْإِسْلَام الثَّالِث احْتج بِهِ مَالك فِي اكتفائه بنية وَاحِدَة فِي أول شهر رَمَضَان وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد لِأَن كُله عبَادَة وَاحِدَة وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة لَا بُد من النِّيَّة لكل يَوْم لِأَن صَوْم كل يَوْم عبَادَة مُسْتَقلَّة بذاتها فَلَا يَكْتَفِي بنية وَاحِدَة الرَّابِع احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَمَالك فِي أَن الصرورة يَصح حجه عَن غَيره وَلَا يَصح عَن نَفسه لِأَنَّهُ لم يُنَوّه عَن نَفسه وَإِنَّمَا لَهُ مَا نَوَاه وَذهب الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَى أَنه لَا ينْعَقد عَن غَيره وَيَقَع ذَلِك عَن نَفسه والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم (فَإِن قيل) روى أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يَقُول لبيْك عَن شبْرمَة فَقَالَ أحججت قطّ قَالَ لَا قَالَ فَاجْعَلْ هَذِه عَن نَفسك ثمَّ حج عَن شبْرمَة وَهَذِه رِوَايَة ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد حج عَن نَفسك ثمَّ حج عَن شبْرمَة قلت قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ الصَّحِيح من الرِّوَايَة اجْعَلْهَا فِي نَفسك ثمَّ حج عَن شبْرمَة فَإِن قلت كَيفَ يَأْمُرهُ بذلك وَالْإِحْرَام وَقع عَن الأول قلت يحْتَمل أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين لم يكن الْإِحْرَام لَازِما على مَا رُوِيَ عَن بعض الصَّحَابَة أَنه تحلل فِي حجَّة الْوَدَاع عَن الْحَج بِأَفْعَال الْعمرَة فَكَانَ يُمكنهُ فسخ الأول وَتَقْدِيم حج نَفسه وَقد اسْتدلَّ بَعضهم لأبي حنيفَة وَمن مَعَه بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا يُلَبِّي عَن أَبِيه فَقَالَ أَيهَا الملبي عَن أَبِيه احجج عَن نَفسك ثمَّ قَالَ هَذَا ضَعِيف فِيهِ الْحسن بن عمَارَة وَهُوَ مَتْرُوك قلت مَا اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة إِلَّا بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أَن امْرَأَة من خثعم قَالَت يَا رَسُول الله إِن أبي أَدْرَكته فَرِيضَة الْحَج وَإنَّهُ شيخ كَبِير لَا يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة أفأحج عَنهُ قَالَ نعم حجي عَن أَبِيك وَفِي لفظ أخرجه أَحْمد لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته عَنهُ كَانَ يجْزِيه قَالَت نعم قَالَ فحجي عَن أَبِيك وَلم يستفسر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل حججْت أم لَا الْخَامِس قَالَت الشَّافِعِيَّة فِيهِ حجَّة على أبي حنيفَة حَيْثُ ذهب إِلَى أَن الْمُقِيم إِذا نوى فِي رَمَضَان صَوْم قَضَاء أَو كَفَّارَة أَو تطوع وَقع عَن رَمَضَان قَالُوا أَنه وَقع عَن غير رَمَضَان إِذْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا نَوَاه وَلم ينْو صَوْم
الصفحة 33
332