كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 1)

العربُ للدفنِ إِضْلاَلاً، تقولُ: أَضَلُّوهُ إِذَا دَفَنُوهُ، ومنه قولُ الشاعرِ (¬1):
وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالْجَوْلاَنِ حَزْمٌ وَنَائِلُ
وقولُه: {وَضَلَّ عَنْكُمْ} أي: غَابَ، وَذَهَبَ وَاضْمَحَلَّ عَنْكُمْ، مَا كُنْتُمْ تفترونَه من أن هذه الأصنامَ أنها تشفعُ لكم، وتنقذُكم من كرباتِ يومِ القيامةِ. وهذا توبيخٌ من اللَّهِ (جل وعلا)، وهذا التوبيخُ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بمثلِه في سورةِ الكهفِ، وَزَادَ توبيخَهم بأنهم كانوا يُنْكِرُونَ هذا البعثَ، كما قال: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا} [الكهف: آية 48].
ثم بَيَّنَ أنه إِذَا جَمَعَهُمْ فُرَادَى يَجِدُونَهُ مَحْصِيًّا عليهم جميعَ أعمالِهم، كما قال بعدَه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: آية 49] فالناسُ يومَ القيامةِ يُحْشَرُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بمفردِه، لا مالَ معه، ولاَ خدمَ، ولاَ حشمَ، والدليلُ على أَنَّ (الفُرَادَى) وَاحِدُهُ فَرْدٌ أو فَرَدٌ: قولُه في سورةِ مريمَ: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: آية 95]، دَلَّ ذلك على أنه وَاحِدُ قولِهِ هنا: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، والعربُ تقولُ: تَرَكْتُ هذا وراءَ ظَهْرِي. يعني: خَلْفِي. أي: تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْنَاكُمْ خَلْفَكُمْ، أي: وراءَ ظهورِكم حيث ارْتَحَلْتُمْ عنه في الدنيا، فَعَلَى الإنسانِ أن لا يتركَ - أَعْنِي خلفَ ظهرِه - ما خَوَّلَهُ اللَّهُ، وأن ما أعطاهُ اللَّهُ يقدمُه لآخِرَتِهِ بِصَرْفِهِ فِي وُجُوهِ
الخيرِ، والاستعانةِ بِهِ على ما يُرْضِي اللَّهَ جل وعلا.
¬_________
(¬1) السابق.

الصفحة 529