كتاب العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (اسم الجزء: 1)

ومثالُه في القرآنِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: آية 19] وقولُه جل وعلا: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} - إلى قولِه - {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} [العاديات: الآيات 1 - 4] كما قال هنا: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}.
قولُه: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} فيه للعلماءِ وجهانِ (¬1):
أحدُهما: أنه جَعَلَهُ سَكَنًا أي: شيئًا يسكنُ الناسُ فيه؛ لأَنَّ الناسَ في النهارِ يَكْدَحُونَ في أعمالِهم، ثم يَرُوحُونَ في تَعَبٍ، فيجدونَ ظلامَ الليلِ مناسبًا للهدوءِ والراحةِ. وعلى هذا فهو من السكونِ الذي هو ضِدُّ الحركةِ. يَسْكُنُونَ فيه وينامونَ لينقطعَ عنهم تعبُ الكدَّ بالنهارِ، كما في قولِه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان: آية 47] من (السَّبْتِ) بمعنَى القطعِ. يعني: يقطعُ عنهم تعبَ الكدِّ في النهارِ، وَمِمَّا يدلُّ على هذا: أن اللَّهَ في سورةِ القصصِ لَمَّا بَيَّنَ أن الليلَ والنهارَ آيتانِ من آياتِ اللَّهِ العظامِ، بَيَّنَ أيضًا أنهما نعمتانِ من نِعَمِ اللَّهِ العظامِ، وَجَعَلَ السُّكْنَى في الليلِ من ذلك الإنعامِ حيث قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يعني في الليلِ {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: الآيات 71 - 73] مِنْ طَلَبِ حوائجِكم وأرزاقِكم بالنهارِ، وهذه الآيةُ تُبَيِّنُ أن
¬_________
(¬1) انظر: ابن جرير (11/ 557)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الأضواء (2/ 204

الصفحة 541