كتاب تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (اسم الجزء: 1)

الوجه الأول: أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمه، واحترامه إذا رأوه مرةً كذا، ومرة كذا تنزل منزلته عندهم؛ لأنهم عوام لا يُفرقون ..

الوجه الثاني: أن القارئ يتهم بأنه لا يعرف؛ لأنه قرأ عند العامة بما لا يعرفونه؛ فيبقى هذا القارئ حديث العوام في مجالسهم ..

الوجه الثالث: أنه إذا أحسن العامي الظن بهذا القارئ، وأن عنده علماً بما قرأ، فذهب يقلده، فربما يخطئ، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها. وهذه مفسدة ..
ولهذا قال عليّ: "حدِّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذب الله، ورسوله" (¬١)، وقال ابن مسعود: "إنك لا تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" (¬٢)؛ وعمر بن الخطاب لما سمع هشام بن الحكم يقرأ آية لم يسمعها عمر على الوجه الذي قرأها هشام خاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهشام: "اقرأ"، فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت"، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "اقرأ"، فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم "هكذا أنزلت" (¬٣)؛ لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فكان الناس
---------------
(¬١) أخرجه البخاري ص ١٤، كتاب العلم، باب ٤٩: من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، رقم ١٢٧.
(¬٢) أخرجه مسلم ص ٦٧٥، مقدمة الكتاب، رقم ١٤.
(¬٣) أخرجه البخاري ص ١٨٩، كتاب الخصومات، باب ٤: كلام الخصوم بعضهم في بعض، حديث رقم ٢٤١٩؛ وأخرجه مسلم ص ٨٠٥ - ٨٠٦، كتاب صلاة المسافرين، كتاب فضائل القرآن وما يتعلق به، باب ٤٨: بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف وبيان معناها، حديث رقم ١٨٩٩ [٢٧٠] ٨١٨.
لعدم الحاجة إليها؛ و {كم} استفهامية علقت الفعل {سل} عن العمل؛ فصارت هي، وجملتها في محل نصب؛ وأصله سل فلاناً عن كذا، وكذا؛ فعلقت الفعل عن المفعول الثاني؛ و {كم} تحتاج إلى مميِّز؛ لأن {كم} اسم مبهم تدل على عدد؛ والمعدود: قوله تعالى: {من آية بينة}؛ و {آتينا} أي أعطينا؛ وهي تنصب مفعولين؛ المفعول الأول: الهاء؛ والمفعول الثاني: محذوف؛ والتقدير: كم من آية بينة آتيناهموها؛ وعاد الضمير المحذوف إلى متأخر لفظاً؛ لأنه متقدم رتبة؛ إذ {من آية} كان حقها أن تكون بعد {كم}؛ وجملة: {ومن يبدل ... } شرطية؛ و {مَن} اسم شرط جازم؛ ولهذا جزمت الفعل؛ وجوابه مفهوم من قوله تعالى: {فإن الله شديد العقاب}؛ فالجملة هنا دالة على الجواب، وليست هي الجواب؛ لأن شدة عقاب الله ثابتة سواء بدلوا، أم لم يبدلوا.
قوله تعالى: {سل بني إسرائيل}؛ الخطاب هل هو للرسول وحده؛ أو لكل من يتأتى خطابه؟ مثل هذه الخطابات تارة يقوم الدليل على أنها خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون خاصة به؛ وتارة يقوم الدليل على أنها عامة له، ولغيره، فتكون عامة؛ وتارة لا يقوم الدليل على هذا، ولا على هذا؛ فالظاهر أنها عامة؛ لأن القرآن نزل للأمة إلى يوم القيامة؛ فمن أمثلة ما قام الدليل على أنها للرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: ١ - ٤]؛ ومثال الذي قام الدليل على أنها عامة قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: ١]؛ فقال تعالى: {يا أيها النبي}؛ ولكن أمر بحكم عام، فقال تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن}؛ وأما المحتمل فهو كثير في القرآن؛ ومنه هذه الآية.

الصفحة 18