كتاب تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (اسم الجزء: 1)

هؤلاء على أرجح الأقوال. وهو الذي اختاره ابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره تلميذه الحافظ الذهبي، وجمع كثير من أهل العلم. هو الإشارة إلى بيان إعجاز القرآن العظيم، وأن هذا القرآن لم يأتِ بكلمات، أو بحروف خارجة عن نطاق البشر؛ وإنما هو من الحروف التي لا تعدو ما يتكلم به البشر؛ ومع ذلك فقد أعجزهم ..

فهذا أبين في الإعجاز؛ لأنه لو كان في القرآن حروف أخرى لا يتكلم الناس بها لم يكن الإعجاز في ذلك واقعاً؛ لكنه بنفس الحروف التي يتكلم بها الناس. ومع هذا فقد أعجزهم.؛ فالحكمة منها ظهور إعجاز القرآن الكريم في أبلغ ما يكون من العبارة؛ قالوا: ويدل على ذلك أنه ما من سورة افتتحت بهذه الحروف إلا وللقرآن فيها ذكر؛ إلا بعض السور القليلة لم يذكر فيها القرآن؛ لكن ذُكر ما كان من خصائص القرآن:.

فمثلاً قوله تعالى: {كهيعص} [مريم: ١] ليس بعدها ذكر للقرآن؛ ولكن جاء في السورة خاصية من خصائص القرآن. وهي ذِكر قصص من كان قبلنا.: {ذكر رحمت ربك عبده زكريا ... } (مريم: ٢)
كذلك في سورة الروم قال تعالى في أولها: {الم * غلبت الروم} [الروم: ١، ٢]؛ فهذا الموضع أيضاً ليس فيه ذكر للقرآن؛ ولكن في السورة ذكر شيء من خصائص القرآن. وهو الإخبار عن المستقبل.: {غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} [الروم: ٢. ٤)

وكذلك أيضاً قوله تعالى: {الم * أحسب الناس أن يتركوا
أجر غير ممنون} [الانشقاق: ٢٥] أي غير مقطوع؛ لأن رزق الله لا نهاية له لا سيما الرزق في الآخرة.

الفوائد:

١ - من فوائد الآية: انخداع الكافرين بالحياة الدنيا؛ لقوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا}.

٢ - ومنها: أن الكفار عاشقون لها، وأنها هي همهم، وغرضهم؛ لأن ما زين للشخص فلا بد أن يكون الشخص مهتماً به طالباً له.
٣ - ومنها: أن المؤمنين ليست الدنيا في أعينهم شيئاً؛ لقوله تعالى: {للذين كفروا}؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه في الدنيا يقول: «لبيك! إن العيش عيش الآخرة» (¬١) لتوجيه النفس إلى إجابة الله؛ لا إلى إجابة رغبتها، ثم يقنع النفس أيضاً: أني ما صددتك وأجبت الرب عزّ وجلّ إلا لخير؛ لأن العيش عيش الآخرة؛ والعجيب أن من طلب عيش الآخرة طاب له عيش الدنيا؛ ومن طلب عيش الدنيا ضاعت عليه الدنيا والآخرة؛ قال الله تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} [الزمر: ١٥]؛ هذه هي الخسارة: خسروا أنفسهم؛ لأن مآلهم النار - والعياذ بالله -؛ وأهلوهم أيضاً الذين في النار لا يهتم بعضهم ببعض؛ كل - والعياذ بالله - شقيّ فيما هو فيه؛
---------------
(¬١) أخرجه الشافعي في مسنده ١/ ٣٠٤، حديث رقم ٧٩٢، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٧/ ٤٨، باب: كان إذا رأى شيئاً يعجبه قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة، حديث ١٣١٠٠، أخرجه البيهقي بسنده إلى الشافعي، والحديث مرسل لأنه عن مجاهد أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ... ، الحديث.

الصفحة 23