كتاب تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (اسم الجزء: 1)

أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} [العنكبوت: ١، ٢] ليس فيها ذكر القرآن؛ ولكن فيها شيء من القصص الذي هو أحد خصائص القرآن: {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا ... } (العنكبوت: ٣)

فهذا القول الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره جمع من أهل العلم هو الراجح: أن الحكمة من هذا ظهور إعجاز القرآن في أبلغ صوره، حيث إن القرآن لم يأتِ بجديد من الحروف؛ ومع ذلك فإن أهل اللغة العربية عجزوا عن معارضته وهم البلغاء الفصحاء ..

وقال بعضهم: إن الحكمة منها تنشيط السامعين؛ فإذا تلي القرآن، وقرئ قوله تعالى: {الم} كأنه تعالى يقول: أنصتوا؛ وذلك لأجل المشركين. حتى ينصتوا له ...

ولكن هذا القول فيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لكان هذا في كل السور؛ مع أن أكثر السور غير مبتدئ بمثل هذه الحروف؛ وأيضاً لو كان كذلك ما صارت في السور المدنية. مثل سورة البقرة.؛ لأن السور المدنية ليس فيها أحد يلغو في القرآن؛ فالصواب أن الحكمة من ذلك هو ظهور إعجاز القرآن ..

. {٢} قوله تعالى: {ذلك الكتاب}: "ذا" اسم إشارة؛ واللام للبعد؛ فإذا كان المشار إليه بعيداً تأتي بهذه اللام التي نسميها "لام البعد"؛ أما الكاف فهي للخطاب؛ وهذه الكاف فيها ثلاث لغات:.
الأولى: مراعاة المخاطب؛ فإن كان مفرداً مذكراً فُتِحت؛ وإن كان مفرداً مؤنثاً كُسِرت، وإن كان مثنى قرنت بالميم،
والحاصل أنا نقول: ينبغي لكل إنسان حين يرى في الدنيا ما يعجبه أن يقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
٤ - ومن فوائد الآية: حقارة الدنيا؛ لوصفها بالدنيا؛ وهي من الدنوّ زمناً، ورتبة؛ زمناً؛ لأنها قبل الآخرة؛ ورتبة؛ لأنها قليل بالنسبة للآخرة؛ ولهذا لا تجد في الدنيا حال سرور إلا مشوباً بتنغيص قبله، وبعده؛ لكن هذا التنغيص بالنسبة للمؤمن خير؛ لأن له فيه أجراً، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «عجباً للمؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له؛ وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له» (¬١)؛ والمؤمن إذا ابتلي بالبلاء الجسمي، أو النفسي يقول: هذه نعمة من الله يكفِّر الله بها عني سيئاتي؛ فإذا أحس هذا الإحساس صار هذا الألم نعمة؛ لأن الإنسان خطّاء دائماً؛ وهذه الأشياء لا شك أنها - والحمد لله - تكفير للسيئات؛ فإن صبر واحتسب صارت رفعة للدرجات؛ فالآلام، والبلايا، والهم، والغم، تكفير بكل حال؛ ولكن مع الصبر والاحتساب يكون عملاً صالحاً يثاب عليه، ويؤجر عليه.

٥ - ومن فوائد الآية: أن لا نركن إلى هذه الحياة، ونطمئن إليها؛ بل نجعل همتنا منصرفة إلى الدار الآخرة؛ وهذا لا ينافي أن نتمتع وننعم بما أحل الله لنا مع الاستقامة في ديننا.

٦ - ومنها: أن الكفار لا يزالون يسلطون أنفسهم على المؤمنين؛ لقوله تعالى: {ويسخرون} بالفعل المضارع؛ لأن
---------------
(¬١) أخرجه مسلم ص ١١٩٦، كتاب الزهد والرقائق، باب ١٣: المؤمن أمره كله خير، حديث رقم ٧٥٠٠ [٦٤] ٢٩٩٩.

الصفحة 24