كتاب تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (اسم الجزء: 1)

و {إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} خوفاً منهم؛ فهم أذلاء عند هؤلاء، وهؤلاء؛ لأن كون الإنسان يتخذ من دينه تَقيَّة فهذا دليل على ذله؛ وهذا نوع من النفاق؛ لأنه تستر بما يُظَن أنه خير وهو شر ..

. ٢ ومنها: أن الله يستهزئ بمن يستهزئ به، أو برسله، أو بشرعه جزاءً وفاقاً؛ واعلم أن ها هنا أربعة أقسام:

قسم هو صفة كمال لكن قد ينتج عنه نقص: هذا لا يسمى الله تعالى به؛ ولكن يوصف الله به، مثل "المتكلم"، و"المريد"؛ فـ"المتكلم"، و"المريد" ليسا من أسماء الله؛ لكن يصح أن يوصف الله بأنه متكلم، ومريد على سبيل الإطلاق؛ ولم تكن من أسمائه؛ لأن الكلام قد يكون بخير، وقد يكون بشر؛ وقد يكون بصدق، وقد يكون بكذب؛ وقد يكون بعدل، وقد يكون بظلم؛ وكذلك الإرادة ..
القسم الثاني: ما هو كمال على الإطلاق، ولا ينقسم: فهذا يسمى الله به، مثل: الرحمن، الرحيم، الغفور، السميع، البصير ... وما أشبه ذلك؛ وهو متضمن للصفة؛ وليس معنى قولنا: "يسمى الله به" أن نُحْدِث له اسماً بذلك؛ لأن الأسماء توقيفية؛ لكن معناه أن الله سبحانه وتعالى تَسَمَّى به ..

القسم الثالث: ما لا يكون كمالاً عند الإطلاق؛ ولكن هو كمال عند التقييد؛ فهذا لا يجوز أن يوصف به إلا مقيداً، مثل: الخداع، والمكر، والاستهزاء، والكيد. فلا يصح أن تقول: إن الله ماكر على سبيل الإطلاق، ولكن قل: إن الله ماكر بمن يمكر به، وبرسله، ونحو ذلك ..
قاتلونا نقاتلهم؛ فثقيف كانوا تجمعوا لرسول الله فخرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليغزوهم؛ وكذلك الروم في غزوة تبوك تجمعوا له فخرج إليهم ليدافعهم؛ فالصواب في هذه المسألة أن الحكم باقٍ، وأنه لا يجوز ابتداء الكفار بالقتال في الأشهر الحرم؛ لكن إن اعتدوا علينا نقاتلهم حتى في الشهر الحرام.

٥ - ومنها: أن الأشهر قسمان: أشهر حرم؛ وأشهر غير حرم.
ويتفرع على هذه الفائدة: أن الله يختص من خلقه ما شاء؛ فهناك أماكن حرام، وأماكن غير حرام؛ وأزمنة حرام، وأزمنة غير حرام؛ وهناك رسل، وهناك مرسَل إليهم؛ وهناك صديقون، وهناك من دونهم؛ والله عزّ وجلّ كما يفاضل بين البشر يفاضل بين الأزمنة، والأمكنة.

٦ - ومن فوائد الآية: أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: صغائر، وكبائر؛ وكل منهما درجات؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» (¬١)؛
وحدُّ الكبائر اختلف فيه أقوال الناس؛ فمنهم من قال: إن الكبائر معدودة؛ وذهب يتتبع كل نص قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا من الكبائر؛ وعدّها سرداً؛ ومنهم من قال: إن الكبائر محدودة؛ يعني أن لها حداً - أي ضابطاً يجمعها -؛ ليست معينة: هذه، وهذه، وهذه؛ ثم اختلفوا في الضابط، فقال بعضهم: كل ذنب لعن فاعله فهو كبيرة؛ وقال بعضهم: كل ذنب
---------------
(¬١) أخرجه البخاري ص ٢٠٩، كتاب الشهادات، باب ١٠: ما قيل في شهادة الزور، حديث رقم ٢٦٥٤، وأخرجه مسلم ص ٦٩٣، كتاب الإيمان، باب ٣٨: الكبائر وأكبرها، حديث رقم ٢٥٩ [١٤٣] ٨٧ ..

الصفحة 55