كتاب تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (اسم الجزء: 1)

مسألة: -

هل "المنتقم" من جنس الماكر، والمستهزئ؟

الجواب: مسألة "المنتقم" اختلف فيها العلماء؛ منهم من يقول: إن الله لا يوصف به على سبيل الإفراد، وإنما يوصف به إذا اقترن بـ"العفوّ"؛ فيقال: "العفوُّ المنتقم"؛ لأن "المنتقم" على سبيل الإطلاق ليس صفة مدح إلا إذا قُرِن بـ"العفوّ"؛ ومثله أيضاً المُذِل: قالوا: لا يوصف الله سبحانه وتعالى به على سبيل الإفراد إلا إذا قُرِن بـ"المُعِز"؛ فيقال: "المعزُّ المُذل"؛ ومثله أيضاً "الضار": قالوا: لا يوصف الله سبحانه وتعالى به على سبيل الإفراد إلا إذا قُرِن "بالنافع"؛ فيقال: "النافع الضار"؛ ويسمون هذه: الأسماء المزدوجة ..
ويرى بعض العلماء أنه لا يوصف به على وجه الإطلاق. ولو مقروناً بما يقابله. أي إنك لا تقول: العفوّ المنتقم؛ لأنه لم يرد من أوصاف الله سبحانه وتعالى "المنتقم"؛ وليست صفة كمال بذاتها إلا إذا كانت مقيدة بمن يستحق الانتقام؛ ولهذا يقول عزّ وجلّ: {إنا من المجرمين منتقمون} [السجدة: ٢٢]، وقال عزّ وجلّ: {والله عزيز ذو انتقام} [آل عمران: ٤]؛ وهذا هو الذي يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ والحديث الذي ورد في سرد أسماء الله الحسنى، وذُكر فيه المنتقم غير صحيح؛ بل هو مدرج؛ لأن هذا الحديث فيه أشياء لم تصح من أسماء الله؛ وحذف منها أشياء هي من أسماء الله. مما يدل على أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ..

القسم الرابع: ما يتضمن النقص على سبيل الإطلاق: فهذا
فيه حدّ في الدنيا فهو كبيرة؛ وقال بعضهم: كل ذنب فيه وعيد في الآخرة فهو كبيرة؛ لكن شيخ الإسلام رحمه الله قال في بعض كلام له: إن الكبيرة كل ما رتب عليه عقوبة خاصة سواء كانت لعنة؛ أو غضباً؛ أو حداً في الدنيا؛ أو نفي إيمان؛ أو تبرؤاً منه؛ أو غير ذلك؛ فالذنب إذا قيل: لا تفعل كذا؛ أو حرم عليك كذا؛ أو ما أشبه ذلك بدون أن يجعل عقوبة خاصة بهذا الذنب فهو صغيرة؛ أما إذا رتب عليه عقوبة - أيَّ عقوبة كانت - فإنه يكون من الكبائر -؛ فالغش مثلاً كبيرة؛ لأنه رتب عليه عقوبة خاصة - وهي البراءة منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من غش فليس مني» (¬١)؛ كون الإنسان لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه كبيرة؛ لأنه رتب عليه عقوبة خاصة؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬٢)؛
وكون الإنسان لا يكرم جاره كبيرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» (¬٣)؛ وعدوانه على جاره أكبر؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن،
---------------
(¬١) أخرجه مسلم ص ٦٩٥، كتاب الإيمان، باب ٤٣: قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا، حديث رقم ٢٨٤ [١٦٤] ١٠٢.
(¬٢) أخرجه البخاري ص ٣، كتاب الإيمان، باب ٧: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حديث رقم ١٣: وأخرجه مسلم ص ٦٨٨، باب ١٧: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، حديث رقم ١٧٠ [٧١] ٤٥ ..
(¬٣) أخرجه البخاري ص ٥٠٩، كتاب الأدب، باب ٣١: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، حديث رقم ٦٠١٩، وأخرجه مسلم ص ٦٨٨، كتاب الإيمان، باب ١٩: الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير ... ، حديث رقم ١٧٣ [٧٤] ٤٧.

الصفحة 56