كتاب تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (اسم الجزء: 1)

لا يوصف الله سبحانه وتعالى به أبداً، ولا يسمى به، مثل: العاجز؛ الضعيف؛ الأعور .... وما أشبه ذلك؛ فلا يجوز أن يوصف الله سبحانه وتعالى بصفة عيب مطلقاً ..
والاستهزاء هنا في الآية على حقيقته؛ لأن استهزاء الله بهؤلاء المستهزئين دال على كماله، وقوته، وعدم عجزه عن مقابلتهم؛ فهو صفة كمال هنا في مقابل المستهزئين مثل قوله تعالى: {إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً} [الطارق: ١٥ - ١٦} أي أعظمَ منه كيداً؛ فالاستهزاء من الله تعالى حق على حقيقته، ولا يجوز أن يفسر بغير ظاهره؛ فتفسيره بغير ظاهره محرم؛ وكل من فسر شيئاً من القرآن على غير ظاهره بلا دليل صحيح فقد قال على الله ما لم يعلم؛ والقول على الله بلا علم حرام، كما قال تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: ٣٣]؛ فكل قول على الله بلا علم في شرعه، أو في فعله، أو في وصفه غير جائز؛ بل نحن نؤمن بأن الله جل وعلا يستهزئ بالمنافقين استهزاءً حقيقياً؛ لكن ليس كاستهزائنا؛ بل أعظم من استهزائنا، وأكبر، وليس كمثله شيء ..

وهذه القاعدة يجب أن يسار عليها في كل ما وصف الله به نفسه؛ فكما أنك لا تتجاوز حكم الله فلا تقول لما حرم: "إنه حلال"، فكذلك لا تقول لما وصف به نفسه أن هذا ليس المراد؛ فكل ما وصف الله به نفسه يجب عليك أن تبقيه على ظاهره، لكن تعلم أن ظاهره ليس كالذي ينسب لك؛ فاستهزاء الله ليس كاستهزائنا؛ وقرب الله ليس كقربنا؛ واستواء الله على عرشه ليس كاستوائنا على السرير؛ وهكذا بقية الصفات نجريها على ظاهرها،
والله لا يؤمن، قالوا: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه» (¬١)؛ وهذا الضابط أقرب الضوابط في تعريف الكبيرة؛ ولكن مع هذا لا نقول: إن هذه الكبائر سواء؛ بل من الكبائر ما يقرب أن يكون من الصغائر على حسب ما رتب عليه من العقوبة؛ فقطاع الطريق مثلاً أعظم جرماً من اللصوص.

٧ - ومن فوائد الآية: أن الصد عن سبيل الله أعظم من القتال في الأشهر الحرم؛ لقوله تعالى: {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله}؛ ويحتمل أن مجموع هذه الأفعال الأربعة أكبر عند الله من القتال؛ لا أن كل واحد منها أكبر عند الله.

٨ - ومنها: أن أعظم الذنوب أن يصد الإنسان عن الحق؛ فكل من صد عن الخير فهو صاد عن سبيل الله؛ ولكن هذا الصد يختلف باختلاف ما صد عنه؛ من صد عن الإيمان فهو أعظم شيء - مثل مشركي قريش؛ ومن صد عن شيء أقل، كمن صد عن تطوع مثلاً فإنه أخف؛ ولكن لا شك أن هذا جرم؛ فالنهي عن المعروف من صفات المنافقين.
٩ - ومنها: عظم الصد عن المسجد الحرام؛ ولذلك صور متعددة؛ فقد يكون بمنع الناس من الحج؛ ولكن لو قال وليّ الأمر: أنا لا أمنعهم؛ ولكنني أنظمهم؛ لأن الناس يقتل بعضهم
---------------
(¬١) أخرجه البخاري ص ٥٠٩، كتاب الأدب، باب ١٢٩: إثم من لا يأمن جاره بوائقه، حديث رقم ٦٠١٦، واللفظ له، وأخرجه مسلم بطريق أخرى ص ٦٨٨، كتاب الإيمان باب ١٨: بيان تحريم إيذاء الجار، حديث رقم ١٧٢ [٧٣] ٤٦.

الصفحة 57