كتاب تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (اسم الجزء: 1)

ولا نقول على الله ما لا نعلم؛ ولكن ننزه ربنا عما نزَّه نفسه عنه من مماثلة المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: ١١] ..
أما الخيانة فلا يوصف بها الله مطلقاً؛ لأن الخيانة صفة نقص مطلق؛ و"الخيانة" معناها: الخديعة في موضع الائتمان. وهذا نقص؛ ولهذا قال الله عزّ وجلّ: {وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم} [الأنفال: ٧١]، ولم يقل: فخانهم؛ لكن لما قال تعالى: {يخادعون الله} [النساء: ١٤٢] قال: {وهو خادعهم} [النساء: ١٤٢]؛ لأن الخديعة صفة مدح مقيدة؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" (¬١)، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تخن من خانك" (¬٢)؛ لأن الخيانة تكون في موضع الائتمان؛ أما الخداع فيكون في موضع ليس فيه ائتمان؛ والخيانة صفة نقص مطلق ..

. ٣ ومن فوائد الآيتين: أن الله سبحانه وتعالى قد يُملي للظالم حتى يستمر في طغيانه ..
فيستفاد من هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي تحذير الإنسان
---------------
(¬١) أخرجه البخاري ص ٢٤٣، كتاب الجهاد والسير، باب ١٥٧؛ الحرب خدعة، حديث رقم ٣٠٢٨؛ وأخرجه مسلم ص ٩٨٦، كتاب الجهاد والسير، باب ٥؛ جواز الخداع في الحرب، حديث رقم ٤٥٤٠ [١٨] ١٧٤٠.
(¬٢) أخرجه أحمد في مسنده ٣/ ٤١٤؛ وأخرجه أبو داود في سننه ص ١٤٨٥، كتاب البيوع، باب ٧٩: في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، حديث رقم ٣٥٣٤؛ وأخرجه الترمذي ص ١٧٧٨، كتاب البيوع، باب ٣٨: أد الأمانة إلى من ائتمنك، حديث رقم ١٢٦٤؛ وأخرجه الدارمي في سننه ٢/ ٣٤٣، حديث رقم ٢٥٩٧، كتاب البيوع، باب ٥٧: في أداء الأمانة واجتناب الخيانة، قال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح ٢/ ١٨، وقال عبد القادر الأرناؤوط في حاشية جامع الأصول: صحيح ٦/ ٣٢٣، حاشية رقم ١.
بعضاً لو اجتمعوا جميعاً؛ فهل نقول: إن هذا من باب السياسة الجائزة، كمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من لا يصلح للجهاد من الجهاد (¬١)؟ أو نقول: إن في هذا نظراً؟ هذه المسألة تحتاج إلى نظر بعيد؛ وهل مراعاة المصالح بالنسبة للعموم تقضي على مراعاة المصالح بالنسبة للخصوص؛ أو لا؟.

وقد يكون الصد بإلهائهم، وإشغالهم عن فعل العبادات؛ وقد يكون بتحقير العبادات في أنفسهم؛ وقد يكون بإلقاء الشبهات في قلوب الناس حتى يشكوا في دينهم، ويدَعوه.

١٠ - ومن فوائد الآية: تقديم ما يفيد العليّة؛ لقوله تعالى: {عن الشهر الحرام قتال فيه}؛ المسؤول عنه القتال في الشهر الحرام؛ لكنه قدم الشهر الحرام؛ لأنه العلة في تحريم القتال؛ ومن ذلك قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذًى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: ٢٢٢]؛ فقدم العلة على الحكم لتنفر النفوس من الفعل قبل الحكم به؛ فيقع الحكم وقد تهيأت النفوس للاستعداد له، وقبوله.
١١ - ومن فوائد الآية: تفاوت الذنوب؛ لقوله تعالى: {قل قتال فيه كبير} إلى قوله تعالى: {أكبر عند الله}؛ وبتفاوت الذنوب يتفاوت الإيمان؛ لأنه كلما كان الذنب أعظم كان نقص الإيمان به أكبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني
---------------
(¬١) راجع البخاري ص ٢١١، كتاب الشهادات، باب ١٨: بلوغ الصبيان وشهادتهم، حديث رقم ٢٦٦٤، وأخرجه مسلم ص ١٠١٣، كتاب الإمارة، باب ٢٣: بيان سن البلوغ، حديث رقم ٤٨٣٧ [٩١] ١٨٦٨.

الصفحة 58