كتاب تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (اسم الجزء: 1)

أتباعهم؛ لأن رأس المنافقين هو الذي استوقد النار، وأراد أن ينفع بها أقرانه، ثم ذهبت الإضاءة، وبقيت الحرارة، والظلمة، وتركهم جميعاً في ظلمات لا يبصرون ..

قوله تعالى: {وتركهم في ظلمات}: جمعها لتضمنها ظلمات عديدة؛ أولها: ظلمة الليل؛ لأن استيقاد النار للإضاءة لا يكون إلا في الليل؛ لأنك إذا استوقدت ناراً بالنهار فإنها لا تضيء؛ والثانية: ظلمة الجو إذا كان غائماً؛ والثالثة: الظلمة التي تحدث بعد فقد النور؛ فإنها تكون أشد من الظلمة الدائمة؛ و {لا يبصرون} تأكيد من حيث المعنى لقوله تعالى: {في ظلمات} دال على شدة الظلمة ...
{١٨} قوله تعالى في وصفهم: {صم} خبر لمبتدأ محذوف. أي هم صم؛ و {صم} جمع أصم؛ و"الأصم" الذي لا يسمع، لكنه هنا ليس على سبيل الإطلاق؛ بل أريد به شيء معين: أي هم صم عن الحق، فلا يسمعون؛ والمراد نفي السمع المعنوي. وهو السمع النافع؛ لا الحسي. وهو الإدراك؛ لأن كلهم يسمعون القرآن، ويفهمون معناه، لكن لما كانوا لا ينتفعون به صاروا كالصم الذين لا يسمعون؛ وذلك مثل قول الله تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} (الأنفال: ٢١).

قوله تعالى: {بُكْمٌ} جمع أبكم؛ وهو الذي لا ينطق؛ والمراد أنهم لا ينطقون بالحق؛ وإنما ينطقون بالباطل؛ و {عُمْيٌ} جمع أعمى؛ والمراد أنهم لا ينتفعون بما يشاهدونه من الآية التي تظهر على أيدي الرسل. عليهم الصلاة والسلام ..

فبهذا سُدت طرق الحق أمامهم؛ لأن الحق إما مسموع؛
والمراد بالهجرة في الآية ما يشمل المعنيين: العام، والخاص.
قوله تعالى: {وجاهدوا في سبيل الله} معطوفة على الصلة في {الذين هاجروا}؛ ولم يعد الموصول؛ لأن الهجرة والجهاد عملان مبنيان على الإيمان؛ و «الجهاد في سبيل الله» هو قتال الكفار لتكون كلمة الله هي العليا؛ و «الجهاد» هو بَذْلُكَ الجهد لأمر مطلوب؛ والجهد معناه الطاقة، كما قال تعالى: {والذين لا يجدون إلا جهدهم} [التوبة: ٧٩] يعني إلا طاقتهم؛ وهو يغلب على بذل الجهد في قتال الأعداء؛ وإلا فكل أمر شاق تبذل فيه الطاقة فإنه جهاد؛ ولهذا كان جهاد النفس يسمى جهاداً؛ ولكن لا صحة للحديث الذي يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما رجع من تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (¬١) يعني: جهاد النفس؛ ولكن لا شك أن النفس تحتاج إلى مجاهدة لحملها على فعل الطاعة، وترك المعصية.

قوله تعالى: {أولئك يرجون رحمة الله}؛ هذه الجملة خبر {إن} في أول الآية؛ واسمها {الذين}؛ وجملة: {أولئك يرجون رحمة الله} الخبر؛ وهي جملة؛ لأن «أولاء» مبتدأ؛ و {يرجون} جملة خبر المبتدأ الثاني؛ والجملة من المبتدأ الثاني، والخبر خبر {إن}؛ والإشارة بمبتدأ جديد تدل على رفعة مقامهم؛ ولا سيما وقد أتى باسم الإشارة؛ وتصدير خبر {إن} باسم الإشارة للبعيد يدل على علو همتهم؛ فيكون في ذلك تنويه بذكرهم من وجهين:
---------------
(¬١) انظر: الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص ١٢٧.

الصفحة 63