"""""" صفحة رقم 317 """"""
الوجه الثاني: أن نقول لا شك في أن القرآن الكريم حاو لجميع العلوم وأئمة المفسرين أصناف شتى كل صنف منهم غلب عليه فن من العلوم فكان تفسيره في غاية الإتقان من حيث ذلك الفن الغالب عليه، فينبغي لمن أراد التكلم على آية من حيثية أن ينظر تفسير من غلب عليه ذلك الفن التي تلك الحيثية منه، فمن أراد التكلم على آية من حيث التفسير الذي هو نقل محض ومعرفة الأرجح فيه فالأولى أن ينظر عليها تفاسير أئمة النقل، والأثر، وأجلّها تفسير ابن جرير الطبري فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله، وقريب منه من تفاسير المتأخرين تفسير الحافظ عماد الدين بن كثير، وكذلك من أراد التكلم على آية تتعلق بالأخبار السابقة أو الآتية كأشراط الساعة وأحوال البرزخ والبعث والملكوت ونحو ذلك مما لا مجال للرأي فيه، فالأولى أخذها من التفسيرين المذكورين وسائر تفاسير المحدثين المسندة كسعيد بن منصور، والقرباني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ ومن جرى مجراهم، ومن أراد التكلم على آية من حيث علم الكلام فالأولى أن ينظر عليها تفسير من غلب عليه الكلام واشتهر بالبراعة فيه كابن فورك، والباقلاني، وإمام الحرمين، والإمام فخر الدين، والأصبهاني، ونحوهم. ومن أراد التكلم عليها من حيث الإعراب فالأولى أن ينظر عليها تفسير أئمة النحو المتبحرين فيه كأبي حيان. ومن أراد التكلم عليها من حيث البلاغة فالأولى أن ينظر عليها الكشاف، وتفسير الطيبي ونحو ذلك. ومسألة تفضيل أبي بكر من علم الكلام وكونه هو المراد بالآية من علم التفسير فكان الأولى للجوجري قبل الكتابة أن ينظر عليها كتاب ابن جرير ونحوه لأجل معرفة الأرجح في التفسير، وكتاب الإمام فخر الدين ونحوه لأجل معرفة التقرير الكلامي، ثم ينهض إلى مراجعة كتب أئمة الكلام لينظر كيف قرروا الاستدلال بها على أفضلية الصديق ككتب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وابن فورك، والباقلاني، والشهر ستاني، وإمام الحرمين، والغزالي ومن جرى مجراهم ويتعب كل التعب ويجد كل الجد ويعتزل الراحة والشغل ولا يسأم ولا يضجر، ويدع الفتيا تمكث عنده الشهر والشهرين والعام والعامين، فإذا وقف على متفرقات كلام الناس في المسألة ونظر وحقق وأورد على نفسه كل إشكال وأعدله الجواب المقبول حطم حينئذ على الكتابة وحكم بين الأمراء وفصل بين العلماء، وأما الاستعجال في الجواب والكتابة بمجرد ما يخطر بباله أو يظهر في بادىء الرأي مع الراحة والاتكال على الشهرة وعدم التضلع بذلك الفن وما يحتاح إليه فيه فإنه لا يليق، ولهذا تجد الواحد ممن كان بهذه المثابة يكتب ويرجع ويتزلزل بأدنى زلزلة ويضطرب قوله في المسألة الواحدة مرات ويبحث معه أدنى الطلبة فيشككه، وأكثر ما يحتج به الواحد منهم إذا صمّم على قوله أن يقول: الظاهر كذا أو كذا أو هذا الذي ظهر لي من غير اعتماد على مستند بيده أوحجة يظهرها كأنه الشيخ أبو الحسن الشاذلي إمام أرباب القلوب في زمانه الذي كان يسأل معتمداً على الإلهام الواقع في قلبه ذاك إلهامه صواب لا يخطىء وبعد موتات ماتها في الله.