"""""" صفحة رقم 379 """"""
لذلك، وأخرج أيضاً عن عبيد بن عمير قال: كان عمر يكبر في قبته فيكبر أهل المسجد فيكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيراً. وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وأنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهها بالأمواج من كثرتها.
فصل: إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر بل فيه ما يدل على استحبابه إما صريحاً أو التزاماٍ كما أشرنا إليه، وأما معارضته بحديث: (خير الذكر الخفي) فهو نظير معارضة أحاديث الجهر بالقرآن بحديث المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة، وقد جمع النووي بينهما بأن الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذى به مصلون أو نيام والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارىء ويجمع همه إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد النوم ويزيد في النشاط، وقال بعضهم: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر، والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار انتهى، وكذلك نقول في الذكر على هذا التفصيل وبه يحصل الجمع بين الأحاديث فإن قلت: قال الله تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول قلت: الجواب عن هذه الآية من ثلاثة أوجه: الأول: أنها مكية كآية الإسراء ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلّم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله فأمر بترك الجهر سداً للذريعة كما نهى عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم وقد زال هذا المعنى وأشار إلى ابن كثير في تفسيره الثاني أن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك، وابن جرير حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن وأنه أمر له بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنده الأصوات ويقويه اتصالها بقوله: وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قلت: وكأنه لما أمر بالإنصات خشي من ذلك الإخلاد إلى البطالة فنبه على أنه وإن كان مأموراً بالسكوت باللسان إلا أن تكليف الذكر بالقلب باق حتى لا يغفل عن ذكر الله ولذا ختم الآية بقوله: ولا تكن من الغافلين الثالث ما ذكره الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ممن هو محل الوساوس والخواطر الرديئة فمأمور بالجهر لأنه أشد تأثيراً في دفعها. قلت: ويؤيده من الحديث ما أخرجه البزار عن معاذين جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (من صلى منكم بالليل فليجهر بقراءته فإن الملائكة تصلي بصلاته وتسمع لقراءته، وإن مؤمني الجن الذين يكونون في الهواء وجيرانه معه في مسكنه يصلون بصلاته ويستمعون قراءته وانه ينطرد بجهره بقراءته عن داره وعن الدور التي حوله فساق الجن ومردة الشياطين).
فإن قلت: فقد قال تعالى:) ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين (