كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (اسم الجزء: 1)

في وكره وعش مأربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره لا زلت مذ شذوت العلم وآتاني ربي الفطانة والفهم أرغب في معرفة أخبارها وأحبّ الأشراف على الاغتراف من آبارها، وأهوى مسائلة الركبان عن سكان ديارها فقيدت بخطى في الأعوام الكثيرة، وجمعت من ذلك فوائد قل ما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها أهاب إلّا أنها ليست بمرتبة على مثال ولا مهذبة بطريقة ما نسج على منوال، فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية، عن الأمم الماضية والقرون الخالية، وما بقي بفسطاط مصر من المعاهد غير ما كاد يفنيه البلى والقدم ولم يبق إلّا أن يمحو رسمها الفناء والعدم، وأذكر ما بمدينة القاهرة من آثار القصور الزاهرة، وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال من أسس ذلك من أعيان الأماثل، والتنويه بذكر الذي شادها من سراة الأعاظم والأفاضل وأنثر خلال ذلك نكتا لطيفة، وحكما بديعة شريفة من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف مخل بالغرض ولا اختصار، بل وسط بين الطرفين، وطريق بين بين.
فلهذا سميته (كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) ، وإني لأرجو أن يحظى إن شاء الله تعالى عند الملوك ولا ينبو عنه طباع العاميّ والصعلوك ويجله العالم المنتهي، ويعجب به الطالب المبتدي، وترضاه خلائق العابد الناسك، ولا يمجه سمع الخليع الفاتك ويتخذه أهل البطالة والرفاهية سمرا، ويعدّه أولو الرأي والتدبير موعظة وعبرا، يستدلون به على عظيم قدرة الله تعالى في تبديل الأبدال، ويعرفون به عجائب صنع ربنا سبحانه من تنقل الأمور إلى حال بعد حال، فإن كنت أحسنت فيما جمعت وأصبت في الذي صنعت ووضعت، فذلك من عميم منن الله تعالى وجزيل فضله وعظيم أنعمه عليّ، وجليل طوله، وإن أنا أسأت فيما فعلت وأخطأت إذ وضعت فما أجدر الإنسان بالإساءة والعيوب إذا لم يعصمه ويحفظه علام الغيوب:
وما أبرّئ نفسي أنني بشر ... أسهو وأخطىء ما لم يحمني قدر
ولا ترى عذرا أولى بذي زلل ... من أن يقول مقرّا أنني بشر
فليسبل الناظر في هذا التأليف على مؤلفه ذيل ستره إن مرّت به هفوة، وليغض تجاوزا وصفحا إن وقف منه على كبوة، أو نبوة فأيّ جواد وإن عنق ما يكبو، وأيّ عضب مهند لا يكل ولا ينبو لا سيما والخاطر بالأفكار مشغول، والعزم لالتواء الأمور وتعسرها فاتر محلول، والذهن من خطوب هذا الزمن القطوب كليل والقلب لتوالي المحن، وتواتر الإحن عليل:
يعاندني دهري كأني عدوّه ... وفي كل يوم بالكريهة يلقاني
فإن رمت شيئا جاءني منه ضدّه ... وإن راق لي يوما تكدّر في الثاني

الصفحة 6