كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 1)

قُلْتُ: هَكَذَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ وَالْأَنْبِيَاءِ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْإِمَامِ الْفَاضِلِ وَالْحَبْرِ الْعَالِمِ كَيْفَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى عَمَلِهِ عِوَضًا وَلَا عَلَى وَصِيَّتِهِ بَدَلًا وَلَا عَلَى نَصِيحَتِهِ صَفَدًا «1» بَلْ بَيَّنَ الْحَقَّ وَصَدَعَ وَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ خَوْفٌ وَلَا فَزَعٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ أحد أن يقول أو يقوم بِالْحَقِّ حَيْثُ كَانَ). وَفِي التَّنْزِيلِ" يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" «2» [المائدة 54]. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التقوى «3» وقرى" فَاتَّقُونِي" بِالْيَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُهُ" وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ" قَالَ مَوْضِعُ عِلْمِي السَّابِقُ فِيكُمْ." وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" قَالَ مَوْضِعُ الْمَكْرِ وَالِاسْتِدْرَاجِ «4» لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:" سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ" «5» [الأعراف: 182] وقوله:" فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ" «6» [الأعراف: 99] فما استثنى نبيا ولا صديقا.

[سورة البقرة (2): آية 42]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
قوله تعالى: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) اللَّبْسُ: الْخَلْطُ. لَبَسْتُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ أَلْبِسْهُ، إِذَا مَزَجْتُ بَيِّنَهُ بِمُشْكِلِهِ وَحَقَّهُ بِبَاطِلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ" «7» [الانعام: 9]. وَفِي الْأَمْرِ لُبْسَةٌ أَيْ لَيْسَ بِوَاضِحٍ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْحَارِثِ بْنِ حَوْطٍ يَا حَارِثُ إِنَّهُ مَلْبُوسٌ عَلَيْكَ، إِنَّ الْحَقَّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ، اعْرِفِ الْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ. وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
تَرَى الْجَلِيسَ يَقُولُ الْحَقَّ تَحْسَبُهُ ... رُشْدًا وَهَيْهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا
صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ ... وَالْبَسْ عليه أمورا مثل ما لبسا
__________
(1). الصفد (بالتحريك): العطاء.
(2). راجع ج 6 ص 220.
(3). راجع ص 161 وما بعدها.
(4). العبارة هاهنا غير واضحة. والذي في البحر لابي حيان: (وقال سهل:) وإياي فارهبون) موضع اليقين بمعرفته (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج.
(5). راجع ج 7 ص 329 وص 254.
(6). راجع ج 7 ص 329 وص 254.
(7). راجع ج 6 ص 394.

الصفحة 340