كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 1)

أَبُو بَكْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا الْعَقْلُ آلَةُ التَّمْيِيزِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَقْلُ قُوَّةُ التَّمْيِيزِ وَحُكِيَ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَقْلُ أَنْوَارٌ وَبَصَائِرُ ثُمَّ رَتَّبَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَحَمَلَهَا عَلَى مَحَامِلَ فَقَالَ وَالْأَوْلَى أَلَّا يَصِحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ فَإِنَّ الْآلَةَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْآلَةِ الْمُثْبَتَةِ «1» وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْأَعْرَاضِ مَجَازٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قُوَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَّا الْقُدْرَةُ وَالْقَلَانِسِيُّ أَطْلَقَ مَا أَطْلَقَهُ تَوَسُّعًا فِي الْعِبَارَاتِ وَكَذَلِكَ الْمُحَاسِبِيُّ. وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِصُورَةٍ وَلَا نُورٍ وَلَكِنْ تُسْتَفَادُ بِهِ الْأَنْوَارُ وَالْبَصَائِرُ وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ فَائِدَتِهِ فِي آيَةِ «2» التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ الله تعالى.

[سورة البقرة (2): آية 45]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الصَّبْرُ: الْحَبْسُ فِي اللُّغَةِ وَقُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا أَيْ أُمْسِكَ وَحُبِسَ حَتَّى أُتْلِفَ وَصَبَّرْتُ نَفْسِي عَلَى الشَّيْءِ حَبَسْتُهَا. وَالْمَصْبُورَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمَحْبُوسَةُ عَلَى الْمَوْتِ وَهِيَ الْمُجَثَّمَةُ. وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ
الثَّانِيَةُ- أَمَرَ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمُخَالَفَةِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ" وَاصْبِرُوا" يُقَالُ فُلَانٌ صَابِرٌ عَنِ الْمَعَاصِي وَإِذَا صَبَرَ عَنِ الْمَعَاصِي فَقَدْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَا يُقَالُ لِمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ: صَابِرٌ إِنَّمَا يُقَالُ صَابِرٌ عَلَى كَذَا. فَإِذَا قُلْتَ صَابِرٌ مُطْلَقًا فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى" إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «3» " [الزمر: 10] الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالصَّلاةِ" خَصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ تَنْوِيهًا بِذِكْرِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا حَزَبَهُ «4» أَمْرٌ فَزَعَ إِلَى الصَّلَاةِ وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
__________
(1). في بعض نسخ الأصل: (في الآلة المبنية).
(2). راجع ج 2 ص 191.
(3). راجع ج 15 ص 24.
(4). حزبه: أي نزل به مهم أو أصابه غم.

الصفحة 371