كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 1)
فَمَنْ أَنْكَرَ التَّسْكِينَ فِي حَرْفِ الْإِعْرَابِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ كَانَ عَلَمًا لِلْإِعْرَابِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَمَّا حَرَكَةُ الْبِنَاءِ فَلَمْ يَخْتَلِفِ النُّحَاةُ فِي جَوَازِ تَسْكِينِهَا مَعَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ. وَأَصْلُ بَرَأَ مِنْ تَبَرَّى الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ وَهُوَ انْفِصَالُهُ مِنْهُ. فَالْخَلْقُ قَدْ فُصِلُوا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَمِنْهُ بَرَأْتُ مِنَ الْمَرَضِ بَرْءًا (بِالْفَتْحِ) كَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ. وَغَيْرُهُمْ يَقُولُ بَرِئْتُ مِنَ الْمَرَضِ بُرْءًا (بِالضَّمِّ) وَبَرِئْتُ مِنْكَ وَمِنَ الدُّيُونِ وَالْعُيُوبِ بَرَاءَةً وَمِنْهُ الْمُبَارَأَةُ لِلْمَرْأَةِ. وَقَدْ بَارَأَ شَرِيكَهُ وَامْرَأَتَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتابَ عَلَيْكُمْ) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ أَيْ فَتَجَاوَزَ عَنْكُمْ أَيْ عَلَى الْبَاقِينَ مِنْكُمْ. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تقدم «1» معناه والحمد لله.
[سورة البقرة (2): الآيات 55 الى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
فيه خمس مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ) مَعْطُوفٌ" يَا مُوسى " نِدَاءٌ مُفْرَدٌ" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ" أَيْ نُصَدِّقَكَ" حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً" قِيلَ: هُمُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَسْمَعَهُمْ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى قَالُوا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ" [البقرة: 55] وَالْإِيمَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَاجِبٌ بَعْدَ ظُهُورِ مُعْجِزَاتِهِمْ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَهُمْ ثُمَّ دَعَا مُوسَى رَبَّهُ فَأَحْيَاهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى" ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ" [البقرة: 56] وَسَتَأْتِي قِصَّةُ السَّبْعِينَ فِي الْأَعْرَافِ «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ ابْنُ فُورَكَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُعَاقَبَتُهُمْ لِإِخْرَاجِهِمْ طَلَبَ الرُّؤْيَةِ عَنْ طَرِيقِهِ بقولهم لموسى" أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً" [النساء: 153] وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقْدُورِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَكْثَرُ الْمُبْتَدِعَةِ عَلَى إِنْكَارِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَلَى جَوَازِهَا فِيهِمَا وَوُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَطْلُبُوا مِنَ الرؤية
__________
(1). راجع ص 103 فما بعدها وص 325.
(2). راجع ج 7 ص 294
الصفحة 403