كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 1)

مَسْأَلَةٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَالْمَطَاعِمِ الْمُسْتَلَذَّاتِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ الْعَذْبَ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى فِي" الْمَائِدَةِ" «1» وَ" النَّحْلِ" «2» إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُسْتَوْفًى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (اهْبِطُوا مِصْراً) تَقَدَّمَ مَعْنَى الْهُبُوطِ «3»، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْنَاهُ التَّعْجِيزُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً" [الاسراء: 50] لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي التِّيهِ وَهَذَا عُقُوبَةٌ لَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أُعْطُوا مَا طَلَبُوهُ. وَ" مِصْراً" بِالتَّنْوِينِ مُنَكَّرًا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ خَطُّ الْمُصْحَفِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: فَمَنْ صَرَفَهَا أَرَادَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ:" اهْبِطُوا مِصْراً" قَالَ: مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ صَرَفَهَا أَيْضًا: أَرَادَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ بِعَيْنِهَا. اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ مِنْ أَمْرِهِمْ دُخُولَ الْقَرْيَةِ، وَبِمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُمْ سَكَنُوا الشَّامَ بَعْدَ التِّيهِ. وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ دِيَارَ آلِ فِرْعَوْنَ وَآثَارَهُمْ، وَأَجَازُوا صَرْفَهَا. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: لِخِفَّتِهَا وَشَبَهِهَا بِهِنْدٍ وَدَعْدٍ، وَأَنْشَدَ:
لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا ... دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعْدُ فِي الْعُلَبِ «4»
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وَسِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ وَالْفَرَّاءُ لَا يُجِيزُونَ هَذَا، لِأَنَّكَ لَوْ سَمَّيْتَ امْرَأَةً بِزَيْدٍ لَمْ تَصْرِفْ. وَقَالَ غَيْرُ الْأَخْفَشِ: أَرَادَ الْمَكَانَ فَصَرَفَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ وَطَلْحَةُ:" مِصْرَ" بِتَرْكِ الصَّرْفِ. وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالُوا: هِيَ مِصْرُ فِرْعَوْنَ. قَالَ أَشْهَبُ قَالَ لِي مَالِكٌ: هِيَ عِنْدِي مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْمِصْرُ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْحَدُّ. وَمِصْرُ الدَّارِ: حُدُودُهَا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ هَجَرَ يَكْتُبُونَ فِي شُرُوطِهِمْ" اشْتَرَى فُلَانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا" أَيْ حُدُودِهَا، قَالَ عَدِيٌّ:
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ الليل قد فصلا
__________
(1). راجع ج 6 ص 263.
(2). راجع ج 10 ص 136.
(3). راجع ص 319.
(4). البيت لجرير. والعلب: أقداح من جلود يحلب فيها اللبن ويشرب. يقول هي حضريه رقيقة العيش لا تلبس لبس الاعراب ولا تتغذى غذاءهم. (شرح الشواهد).

الصفحة 429