كتاب تفسير القرطبي (اسم الجزء: 1)

يُخْتَلَسُ فِيهِ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يقدروا منه على شي (. فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيَدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ منا وقد قرآنا القرآن! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي. وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَيْضًا عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِزِيَادٍ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى). وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لِإِنْسَانٍ:" إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ الصَّلَاةَ وَيُقْصِرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ، كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِرُونَ الصَّلَاةَ، يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ". وَهَذِهِ نُصُوصٌ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَالَ يَحْيَى: سَأَلْتُ ابْنَ نَافِعٍ عَنْ قَوْلِهِ: يَبْدَءُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ؟ قَالَ يَقُولُ: يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَيَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِالَّذِي افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" «1». فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) تَوَلَّى تَفَعَّلَ، وَأَصْلُهُ الْإِعْرَاضُ وَالْإِدْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بالجسم، ثم استعمل في الاعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا وَمَجَازًا. وَقَوْلُهُ: (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أَيْ مِنْ بَعْدِ الْبُرْهَانِ، وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ وَرَفْعُ الْجَبَلِ. وقوله: (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) " فَضْلُ" مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ اسْتَغْنَتْ عَنْ إِظْهَارِهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا أرادوا إظهاره جاءوا بأن، فَإِذَا جَاءُوا بِهَا لَمْ يَحْذِفُوا الْخَبَرَ. وَالتَّقْدِيرُ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ تَدَارَكَكُمْ. (وَرَحْمَتُهُ) عَطْفٌ عَلَى" فَضْلُ" أي
__________
(1). راجع ص 227 من هذا الجزء. [ ..... ]

الصفحة 438