كتاب الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء (اسم الجزء: 1)

ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ «1» شعبا بأعلى مكة، فاصطلحوا به وأسلموا الأمر إلى مضاض.
فلما رجع إليه أمر مكة فصار ملكها له، نحر للناس وأطعمهم، فاطبخ الناس وأكلوا.
فيقال: ما سميت المطابخ إلا لذلك. وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت بذلك لما كان تبع نحر بها وأطعم، وكان منزله.
فكان الذى كان بين مضاض والسميدع أول بغى كان بمكة، فيما يزعمون.
ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة، لا ينازعهم ولد إسماعيل فى ذلك، لخؤولتهم وقرابتهم، وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغى أو قتال.
فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل، انتشروا فى البلاد، فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فوطئوهم.
ثم إن جرهم بغوا بمكة، واستحلوا [خلالا] «2» من الحرمة، وظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذى يهدى لها، فرق أمرهم.
فلما رأت ذلك بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة، فآذنوهم بالحرب. فاقتتلوا فغلبتهم بنو بكر وغبشان، فنفوهم من مكة.
وكانت مكة فى الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا، ولا يبغى فيها أحد إلا أخرجته، فكانت تسمى الناسة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه. فيقال: ما سميت ببكة «3» ، إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا.
__________
(1) المطابخ: موضع معروف بمكة. انظر: الروض المعطار (ص 543) .
(2) ما بين المعقوفتين فى الأصول: «حلالا» ، وما أوردناه من السيرة. وخلال: جمع خلة وهى الخصلة.
(3) قال ابن هشام فى السيرة (1/ 109) : أخبرنى أبو عبيدة: أن بكة اسم لبطن مكة؛ لأنهم يتباكون فيها، أى: يزدحمون، وأنشدنى:
إذا الشريب أخذته أكه ... فخله حتى يبك بكه
أى: فدعه حتى يبك إبله، أى يخليها إلى الماء، فتزدحم عليه، وهو موضع البيت والمسجد، وهذان البيتان لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم.

الصفحة 45