كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 1)

وأما من حيث النقل فلقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «رُفعَ عَنْ أمّتي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ» .
وقد يجاب عن الأول بأنا لا نسلّم أن آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قَبَلاَ من إبليس ذلك الكلام وصَدّقاه؛ لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في ذلك التصديق أعظم من أكل الشَّجرة؛ لأن إبليس لما قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20] الآية فقد ألقى إليهما سوء الظَّن بالله - تعالى - ودعاهما إلى ترك التَّسْلِيم لأمره، والرضا بحكمه، وان يعتقدوا فيه كون إبليس ناصحاً لهما، وأن الرب - تَعَالَى - قد غضهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة، فوجب أن تكون المُعَاتَبَةِ في ذلك أشد، وأيضاً آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان عالماً بتمرد «إبليس» ، وكونه مبغضاً له وحاسداً له، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوّه مع هذه القرائن، وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام.
وأما الجواب الثاني: فهو أن العتاب إنما حصل على قلّة التحفُّظ من سباب النسيان، وهذا الضرب من السَّهو موضوع عن المسلمين، وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خَطَرِهِمْ ومثّلوه بقوله: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء} [الأحزاب: 32] ، ثم قال: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] .
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَشَدُّ النَّاس بَلاَءً الأنبياءُ ثم الأوْلِيَاءُ ثم الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ» ، ولقد كان على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التَّشْديدات في التَّكليف ما لم يَكُنْ على غيره.
وذكر بعض المفسّرين أن حوّاء سقته الخَمْرَ، فسكر وزفي أثناء السّكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد؛ عليه الصَّلاة والسَّلام - كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة، فكان مأذوناً له في تناول الخمر، ولقائل أن يقول: إن خمر الجَنَّة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] .
القول الثاني: أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فعله عامداً؛ فها هنا قولان:
أحدهما: أن ذلك النهي نهي تَنْزِيِهِ، لا نهي تحريم، وقد تقدم.
الثاني: أنه تعمّد وأقدم على الكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذَّنْبِ كبيرة، وهذا اختيار أكثر المعتزلة.

الصفحة 564