كتاب شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (اسم الجزء: 1)

لكن اعترض على من يقول: بأنه من عطف الخاص على العام أيضاً من جهة أن عطف الخاص على العام من الأحكام المختصة بالواو بين سائر حروف العطف، كما نص عليه ابن مالك (¬1) في شرح العمدة، وابن هشام (¬2)
في المغني (¬3) ، فالصواب أن «أو» على بابها للتقسيم، وجعلت «المرأة» قسماً مقابلاً للدنيا تعظيماً لأمرها لأنها أشد فتنة، وعلى تقدير: أنها عطف الخاص على العام فالنكتة في التصريح بها مع دخولنا في الدنيا أمران: أحدهما التنبيه على زيادة التحذير، لأن الافتتان بها أشد. الثاني: أنها سبب الحديث، فحسن التصريح بها.
وقال بعضهم: ذكر الدنيا تحذير للناس منها، وإفرد المرأة زيادة في التحذير، فقد ورد «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (¬4) .
وفي وصية لقمان لابنه: «اتق المرأة فإنها تشيبك قبل الشيب، واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير، وكن من خيارهن على حذر» .
وذكر الدنيا في الحديث لأنها حقيرة لا يتبعها إلا الحقير فقد روى الترمذي وقال حسن صحيح عن سهل بن سعد (¬5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء» (¬6) .
وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
إذ كان شيء لا يساوي جميعه ... جناح بعوض عند من أنت عبده
واشغل جزء منه كلك ما الذي ... يكون على ذا الحال قدرك عنده
معنى «هوان الدنيا على الله تعالى» : أن سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقاً موصلاً إلى ما هو المقصود لنفسه، ولم يجعلها دار إقامة ولا جزاء، وإنما جعلها دار بلاء، وإنه ملكها في الغالب للجهلة والكفرة، وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال، وحسبك بها هو أنه سبحانه صغرها وحقرها وأبغضها أو أبغض أهلها
¬_________
(¬1) ابن مالك هو: العلامة حجة العرب، جمال الدين، أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجَيَّاني بفتح الجيم وتشديد التحتية ونون نسبة إلى جيان بلد بالأندلس، نزيل دمشق ولد سنة (600 أو 601هـ) كان شافعي المذهب، وقال الذهبي: صرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وحاز قصب السبق، وكان ينظم الشعر مع ما هو عليه من الدين المتين، وصدق اللهجة، وكثرة النوافل وحسن السمت، ورقة القلب، وكمال العقل، والوقار، والتؤدة، ومن تصانيفه: الألفية في النحو تسمي الخلاصة، وكتاب تسهيل الفوائد في النحو، وكتاب الضرب في معرفة لسان العرب، وكتاب الكافية الشافية وغيرها، وكانت وفاته رحمه -الله تعالى- في ثاني عشر شعبان سنة (672هـ) .
انظر: أبجد العلوم (3/33، 34) ، وطبقات الشافعية (2/149، 150) ، وكشف الظنون (1/405، 2/1369) .
(¬2) ابن هشام هو: أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري، ولد بالقاهرة سنة (708هـ) نحوي بارع، شافعي المذهب، أمام في اللغة، درَس ودرَّس، وانفرد بالفوائد، وبحث في الدقائق حتى خرج بالعجائب المستدركة، مع قدرته على توجيه الكلام التوجيه البديع، وكل ذلك واضح جلي من خلال مؤلفاته، له من المصنفات الكثير النافع منها: أوضح لمسالك إلى ألفية ابن مالك، وكتاب شذور الذهب في معرفة كلام العرب، وكتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وغيرها من كتبه التي أثرت المكتبة العربية، وكانت وفاته في سنة (762هـ) .
انظر: الدرر الكامنة (2/208) ، بغية الوعاة (ص: 293) ، دائرة المعارف الإسلامية (1/295) .
(¬3) انظر أيضاً شذور الذهب في معرفة كلام العرب لابن هشام (ص: 445) .
(¬4) متفق عليه رواه البخاري في صحيحه (5/1959، رقم 4808) ، ومسلم في صحيحه (4/2097، رقم 2740) من حديث أسامة بن زيد.
(¬5) هو: سهل بن سعد الخزرجي الأنصاري، من بني ساعدة: صحابي، ومن مشاهير الصحابة من أهل المدينة. عاش نحو مائة سنة. له في كتب الحديث 188 حديثاً، توفي في سنة: 91هـ‍.
(¬6) رواه الترمذي في سننه (4/560، رقم2320) عن سهل بن سعد، وقال: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.
وأخرجه أيضاً: أبو نعيم في حلية الأولياء (3/253) ، والروياني في مسنده (2/214، رقم 105) ، وابن حنبل في كتاب الزهد (ص: 63، رقم 128) .

الصفحة 132