كتاب شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (اسم الجزء: 1)

وقوله «فيفصم عني» فيه ثلاث روايات الأولى: «فيفصم» بفتح الياء وكسر الصاد.
الثانية: «فيفصم» بضم الياء وفتح الصاد.
الثالثة: فيفصم بضم الياء وكسر الصاد، ومعنى الروايتين الأولتين، مأخوذة من الفصم وهو القطع قال تعالى ?لاَ انفِصَامَ لَهَا? [البقرة: 256] أي: لا انقطاع لها، ويقال: الفصم الصدع أو الشق من غير إبانة، والمعنى: أن جبريل كان إذا نزل علي بالقرآن وله صوت كصوت الجرس فيفصم أي: فيفارقني على نية أن يعود إليَّ ولا يفارقني إلا وقد وعيت أي: حفظت وجمعت عنه جميع ما قاله لي.
وأما الرواية الثالثة: فهي من أفصم المطر إذا أقلع.
قوله: «وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» الألف واللام في الملك للعهد، والمراد به جبريل، أي: وأوقاتاً يتمثل لي جبريل في صورة رجل، وفي هذا دليل على أن الملائكة تتشكل بشكل البشر لها قوة على التشكل بأي شكل أراد، فقد قال أكثر العلماء: إنها أجسام لطيفة هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة (¬1) .
وفي «جبريل» تسع لغات قرئ ببعضها، أفصحها «جبريل» ومعناه بالعربية: عبد
¬_________
(¬1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/68) : قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية، و «رجلا» منصوب بالمصدرية، أي: يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال والتقدير هيئة رجل.
قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد.
وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حياً، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.
وقال شيخنا شيخ الإسلام: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشاً فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب.

الصفحة 173