كتاب شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية (اسم الجزء: 1)

يارب هذه المنجيات التي كنت أعقد عليها خنصري ظناً أنك بها تعفو عني، قال: كل هذه لم أغفر لك، فقلت: إلهي بماذا؟ قال: أتذكر حين كنت تمشي في دروب بغداد، فوجدت هرة صغيرة قد أضعفها البرد تنزوي من جدار إلى جدار من شدة البرد والثلج، فاخذتها رحمة بها فإذا دخلتها في فرو كان عليك، وقاية لها من البرد، فقلت: نعم، قال: برحمتك لتلك الهرة رحمتك.
«عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الإيمان بضعة وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» .
قوله: «بضعة» بالهاء هو الواقع في أكثر نسخ البخاري، وفي بعض النسخ «بضع» بلا هاء، والبضع والبضعة بكسر الياء على اللغة المشهورة، وبها جاء القرآن العظيم، ويجوز فتحها في لغة قليلة: هو عدد مبهم مستعمل فيما بين الثلاثة والتسعة على الراجح، فإذا قلت له: عندي بضعة عشر درهماً يحتمل أن يكون ثلاثة عشر فأربعة عشر وهكذا إلى تسعة عشر، وإذا قلت له: عندي بضعة وأربعين درهماً يحتمل أن يكون ثلاثة وأربعين أو أربعة وأربعين، وهكذا إلى تسع وأربعين وهكذا.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة» (¬1)
يحتمل أن يكون ثلاثة وستين أو أربعة
¬_________
(¬1) شرح الحافظ ابن حجر في الفتح (1/120) هذه الجملة شرحاً بديعاً فقال: قوله: «بضع» بكسر أوله، وحكي الفتح لغة، وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع كما جزم به القزاز. وقال ابن سيده: إلى العشر، وقيل: من واحد إلى تسعة، وقيل: من اثنين إلى عشرة، وقيل: من أربعة إلى تسعة، وعن الخليل: البضع: السبع.
ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى: ?فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ? [يوسف: 42] ، وما رواه الترمذي بسند صحيح: أن قريشاً قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعاً.
ونقل الصغاني في العباب أنه خاص بما دون العشرة وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع. قال: وأجازه أبو زيد فقال: يقال: بضعة وعشرون رجلاً وبضع وعشرون امرأة. وقال الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة ولا بضع وألف. ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث ويحتاج إلى تأويل.
قوله: «وستون» لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذلك، وتابعه يحيى الحماني -بكسر المهملة وتشديد الميم- عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو عن سليمان بن بلال فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه فقالوا: «بضع وسبعون» من غير شك، ولأبي عوانة في صحيحه من طريق: «ست وسبعون أو سبع وسبعون» ، ورجح البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضاً لكن يرجح بأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذي بلفظ: «أربع وستون» فمعلولة، وعلي صحتها لا تخالف رواية البخاري، وترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة -كما ذكره الحليمي ثم عياض- لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لاسيما مع اتحاد المخرج.
وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري، وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن.
قوله: «شعبة» بالضم أي: قطعة، والمراد الخصلة أو الجزء.
قوله: «والحياء» هو بالمد، وهو في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه.
وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر: «الحياء خير كله» .
فإن قيل: الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان؟
أجيب: بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقاً، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على فعل الطاعة وحاجزاً عن فعل المعصية. ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، لأن ذاك ليس شرعيا.
فإن قيل: لم أفرده بالذكر هنا؟
أجيب: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر.

الصفحة 360