كتاب المحلى بالآثار (اسم الجزء: 1)

قَالُوا: فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا مَا. قَالُوا فَكَانَتْ الْقُلَّتَانِ حَدًّا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا أَيْضًا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِمْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: الْقُلَّةُ أَعْلَى الشَّيْءِ فَمَعْنَى الْقُلَّتَيْنِ هَهُنَا الْقَامَتَانِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - بِمَا رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ: إنَّ الْقُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِنَّ قِلَالَ هَجَرَ الْقُلَّةُ الْوَاحِدَةُ قِرْبَتَانِ أَوْ قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقِرْبَةُ مِائَةُ رَطْلٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَحُدَّ فِي الْقُلَّتَيْنِ حَدًّا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً: الْقُلَّتَانِ أَرْبَعُ قِرَبٍ، وَمَرَّةً قَالَ: خَمْسُ قِرَبٍ، وَلَمْ يَحُدَّهَا بِأَرْطَالٍ. وَقَالَ إِسْحَاقُ: الْقُلَّتَانِ سِتُّ قِرَبٍ، وَقَالَ وَكِيعٌ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ: الْقُلَّةُ الْجَرَّةُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَيَّ جَرَّةٍ كَانَتْ فَهِيَ قُلَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ الْقُلَّةُ الْجَرَّةُ، وَلَمْ يَحُدَّ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْقُلَّةِ حَدًّا.
وَأَظْرَفُ شَيْءٍ تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَغَيْرِ الْجَارِي فَإِنْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ إذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ مَضَى وَخَلْفَهُ طَاهِرٌ: فَقَدْ عَلِمُوا يَقِينًا أَنَّ الَّذِي خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ إذَا انْحَدَرَ فَإِنَّمَا يَنْحَدِرُ كَمَا هُوَ، وَهُمْ يُبِيحُونَ لِمَنْ تَنَاوَلَهُ فِي انْحِدَارِهِ فَتَطَهَّرَ بِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ وَيَغْتَسِلَ وَيَشْرَبَ، وَالنَّجَاسَةُ قَدْ خَالَطَتْهُ بِلَا شَكٍّ، فَوَقَعُوا فِي نَفْسِ مَا شَنَّعُوا وَأَنْكَرُوا. فَإِنْ قَالُوا: لَمْ نَحْتَجَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاءِ الْجَارِي وَغَيْرِ الْجَارِي إلَّا بِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا وَرَدَ عَنْ الْمَاءِ الرَّاكِدِ الَّذِي يُبَالُ فِيهِ. قُلْنَا: صَدَقْتُمْ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَبِذَلِكَ الْأَمْرِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ نَفْسِهِ فَرَّقْنَا نَحْنُ بَيْنَ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ النَّهْيُ وَهُوَ الْبَائِلُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ النَّهْيُ وَهُوَ غَيْرُ الْبَائِلِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ مَا تَرَكُوا مِنْهُ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ فِيمَا ادَّعَوْهُ مِنْ قَبُولِ مَا عَدَا الْمَاءَ لِلنَّجَاسَةِ

الصفحة 154