كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 1)

وأسبابها في الحياة. وهذه الحرية في المدنية الأوروبية قد عودت الرجال أن يغضوا ويتسمحوا، فتهافت النساء عندهم، تنال كل منهن حكم قلبها ويخضع الرجل.
على أن هذا الذي يسميه القوم حرية المرأة، ليس حرية إلا في التسمية، أما في المعنى فهو كما ترى:
إما شرود المرأة في التماس الرزق حين لم تجد الزوج الذي يعولها أو يكفيها ويقيم لها ما تحتاج إليه، فمثل هذه هي حرة حرية النكد في عيشها؛ وليس بها الحرية، بل هي مستعبَدة للعمل شر ما تستعبد امرأة.
وإما طلاق المرأة في عَبَثَاتها وشهواتها, مستجيبة بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع في الرجال، بمقدار ما يشتريه المال، أو تعين عليه القوة، أو يسوغه الطيش، أو يجلبه التهتك، أو تدعو إليه الفنون؛ فمثل هذه هي حرة حرية سقوطها؛ وما بها الحرية، بل يستعبدها التمتع.
والثالثة حرية المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله، فإن هذه المدنية قد نسخت حرام الأديان وحلالها بحرام قانوني وحلال قانوني، فلا مَسْقَطَة للمرأة ولا غَضَاضة عليها قانونًا ... فيما كان يُعدّ من قبلُ خزيًا أقبح الخزي وعارًا أشد العار؛ فمثل هذه هي حرة حرية فسادها، وليس بها الحرية، ولكن تستعبدها الفوضى.
والرابعة غَطْرَسة المرأة المتعلمة، وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معًا؛ فترى أن الرجل لم يبلغ بعد أن يكون الزوج الناعم كقفاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها: نحن امرأتان, فهي من أجل ذلك مطلقة مخلاة كيلا يكون عليها سلطان ولا إِمْرة؛ فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبدة لهوسها وشذوذها وضلالتها.
حرية المرأة في هذه المدنية أوّلها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكن آخرها دائمًا إما ضياع المرأة, وإما فساد المرأة.
والدليل على التواء الطبيعة في المدنية، استواء الطبيعة في البادية؛ فالرجال هناك قوَّامون على النساء، والنساء بهذا قوَّامات على أنفسهن؛ إذ ينتقمون للمنكر انتقامًا يفور دمًا؛ وبهذه الوحشية يقررون شرف العرض في الطبيعة الإنسانية، ويجعلونه فيها كالغريزة، فيحاجزون بين الرجال والنساء أول شيء بالضمير الشريف الذي يجد وسائله قائمة من حوله.

الصفحة 264