كتاب وحي القلم (اسم الجزء: 1)

وضج الناس: "الله أكبر الله أكبر! " في صوت تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، غير أن الناس مما أَلِفوا الكلمة ومما جهلوا من معناها, لا يسمعونها إلا كما يسمعون الكلام؛ أما الذي إلى جانبي فكان ينتفض لها انتفاضة رجَّتني معه رجًّا، إذ كنت ملتصقًا به مناكبًا له؛ وكأن المسجد في نفضه إيانا كان قطارًا يجري بنا في سرعة السحاب، فكل ما فيه يرتج ويهتز. ورأيت صاحبي يذهل عن نفسه، ويتلألأ على وجهه نور لكل تكبيرة، كأن هناك مصباحًا لا يزال ينطفئ ويشتعل؛ فقطعتُ الرأي أنه من الملائكة.
ثم أقيمت الصلاة وكبَّر أهل المسجد، وكنت قرأت أن بعضهم صلى خلف رجل من عظماء النفوس الذين يعرفون الله حق معرفته؛ قال: فلما كبر قال: "الله" ثم بهت وبقي كأنه جسد ليس به روح من إجلاله الله تعالى؛ ثم قال: "أكبر" يعزم بها عزمًا، فظننت أن قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره.
قلت أنا: أما الذي إلى جانبي، فلما كبر مد صوته مدًّا ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوت نورًا لملأ ما بين الفجر والضحى.
وعرفت -والله- من معنى المسجد ما لم أعرف، حتى كأني لم أدخله من قبل، فكان هذا الجالس إلى جانبي كضوء المصباح في المصباح؛ فانكشف لي المسجد في نوره الروحي عن معانٍ أدخلتني من الدنيا في دنيا على حِدَة. فما المسجد بناء ولا مكانًا كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيح للعالم الذي يموج من حوله ويضطرب؛ فإن في الحياة أسباب الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلها يمحوها المسجد إذ يجمع الناس مرارًا في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانية النفس؛ ولا تدخله إنسانية الإنسان إلا طاهرة منزهة مسبغة على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعار الطهر الذي يسمى الوضوء، كأنما يغسل الإنسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد.
ثم يستوي الجميع في هذا المجسد استواءً واحدًا، ويقفون موقفًا واحدًا، ويخشعون خشوعًا واحدًا، ويكونون جميعًا في نفسية واحدة؛ وليس هذا وحده، بل يَخِرّون إلى الأرض جميعًا ساجدين لله؛ فليس لرأس على رأس ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز؛ ومن ثم فليس لذات على ذات سلطان. وهل تحقق الإنسانية وَحْدَتها في الناس بأبدع من هذا؟ ولعمري أين يجد العالم صوابه إلا ههنا؟

الصفحة 285