كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (اسم الجزء: 1)

بِأَنْ مَثَّلَتْ تَعَالَى بِحَالِ مَلِكٍ عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَرَقَّ لَهُمْ فَعَمَّهُمْ مَعْرُوفُهُ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَأُرِيدَ غَايَتُهُ الَّتِي هِيَ إرَادَةٌ، أَوْ فِعْلٌ لَا مَبْدَؤُهُ الَّذِي هُوَ انْفِعَالٌ. وَالرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنْ الرَّحِيمِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى كَمَا فِي قَطَعَ وَقَطَّعَ وَكَبَارٍ وَكَبَّارٍ. وَنَقَضَ بِحِذْرٍ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ حَاذِرٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرِيٌّ لَا كُلِّيٌّ، وَبِأَنَّهُ لَا يُنَافِي أَنْ يَقَعَ فِي الْأَنْقَصِ زِيَادَةُ مَعْنًى بِسَبَبٍ آخَرَ كَالْإِلْحَاقِ بِالْأُمُورِ الْجَبَلِيَّةِ مِثْلَ شَرِهٌ وَنَهِمٌ وَبِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَلَاقِيَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ مُتَّحِدَيْ النَّوْعِ فِي الْمَعْنَى كَغَرَثٍ وَغَرْثَانٍ وَصَدٍّ وَصَدْيَانٍ لَا كَحِذْرٍ وَحَاذِرٍ لِلِاخْتِلَافِ وَإِنَّمَا قُدِّمَ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى كَقَوْلِهِمْ عَالِمٌ نِحْرِيرٌ وَجَوَادٌ فَيَّاضٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْعَلَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ الْبَالِغُ فِي الرَّحْمَةِ غَايَتَهَا وَذَلِكَ لَا يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ عَلَمًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَلَّ عَلَى جَلَائِلِ النَّعَمِ وَأُصُولِهَا ذَكَرَ الرَّحِيمَ لِيَتَنَاوَلَ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ لَهُ وَالرَّدِيفِ وَلِلْمُحَافَظَةِ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ، وَالْأَبْلَغِيَّةُ تُوجَدُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ، وَلِهَذَا قِيلَ يَا رَحْمَنُ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ، وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ وَلِهَذَا قِيلَ يَا رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النِّعَمَ الْأُخْرَوِيَّةَ كُلُّهَا جِسَامٌ، وَأَمَّا النِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَجَلِيلَةٌ وَحَقِيرَةٌ وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَنُدْمَانٍ وَنَدِيمٍ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا، وَقِيلَ الرَّحِيمُ أَبْلَغُ.
وَقَدْ وَرَدَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ عَلَى سَبْعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُ أَوْدَعَ مَا فِيهَا فِي أَرْبَعَةٍ، فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــSأَعْنِي النُّطْقَ، كَانَ اسْتِعَارَتُهُ لِتِلْكَ الْهَيْئَاتِ الْمَانِعَةِ عَنْ الْمَقَاصِدِ بِالْمَرَّةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، لَكِنَّ تَأْخِيرَهُ عَنْ التَّمْثِيلِ يَقْتَضِي أَنْ يُؤَيِّدَهُ أَيْضًا فَيُقَالُ حِينَئِذٍ لَا يُقْتَصَرُ فِي النَّسَبِ عَلَى مُجَرَّدِ الْحِسِّيَّةِ كَمَا فِي الِاسْتِعَارَةِ بَلْ يُعْتَبَرُ مَعَهُ حَالَةٌ مَخْصُوصَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى قِيَاسِ مَا سَبَقَ تَحْرِيرُهُ وَفِي الْبَيْتِ الثَّانِي نَوْعُ إشْعَارٍ بِاعْتِبَارِ التَّرْكِيبِ، انْتَهَى.
(قَوْلُهُ: بِأَنْ مَثَّلْت) أَيْ شَبَّهْت (قَوْلُهُ: مِثْلَ شَرِهٌ وَنَهِمٌ) مِثَالَانِ لَلْجَبَلِيِّ. وَالْمَعْنَى: أَنْ يُجْعَلَ الْحَذَرُ الْعَارِضُ لَهُ كَالصِّفَةِ الْجَبَلِيَّةِ الَّتِي طُبِعَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ وَنَهِمٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ نَهِمَ فِي الشَّيْءِ إذَا رَغِبَ فِيهِ، وَعِبَارَةُ الْمِصْبَاحِ: نَهِمَ فِي الشَّيْءِ يَنْهَمُ بِفَتْحَتَيْنِ نَهْمَةً بَلَغَ هِمَّتَهُ فِيهِ فَهُوَ نَهِيمُ، وَالنَّهَمُ بِفَتْحَتَيْنِ إفْرَاطُ الشَّهْوَةِ فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ وَنَهِمَ نَهَمًا أَيْضًا زَادَتْ رَغْبَتُهُ فِي الْعِلْمِ، وَنَهَمَ يَنْهَمُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ كَثُرَ أَكْلُهُ، وَنُهِمَ بِالشَّيْءِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ إذَا أُولِعَ بِهِ فَهُوَ مَنْهُومٌ انْتَهَى.
(قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا قَدَّمَ) أَيْ الرَّحْمَنَ (قَوْلُهُ: كَقَوْلِهِمْ عَالِمٌ إلَخْ) مِثَالَانِ لِمَا فِيهِ التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ أَدْنَى مِنْ النِّحْرِيرِ وَالْجَوَادُ أَدْنَى مِنْ الْفَيَّاضِ (قَوْلُهُ: بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ) أَيْ الْعَدَدِ (قَوْلُهُ: بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ) أَيْ الصِّفَةِ، وَكَوْنُ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ لَعَلَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَظَرَ فِيهِ لِلْجَسَامَةِ وَعَدَمِهَا، وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ إنَّ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَإِنَّ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ اُسْتُفِيدَ عُمُومُهَا لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ مِنْ الِاسْمَيْنِ لَكِنْ قَدْ يُدَّعَى أَنَّ الرَّحْمَةَ الْمُسْتَفَادَةَ مِنْ الرَّحْمَنِ أَكْثَرُ أَفْرَادًا وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَفْرَادِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ (قَوْلُهُ كُلُّهَا جِسَامٌ) أَيْ عِظَامٌ وَهُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ (قَوْلُهُ عَلَى سَبْعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ) هُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُد وَشِيثٌ وَإِدْرِيسُ.
وَفِي شَرْحِ الْخَطِيبِ عَلَى أَبِي شُجَاعٍ مَا نَصُّهُ: فَائِدَةٌ قَالَ النَّسَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قِيلَ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الدُّنْيَا مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ: صُحُفُ شِيثٍ سِتُّونَ، وَصُحُفُ إبْرَاهِيمَ ثَلَاثُونَ، وَصُحُفُ مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشَرَةٌ، وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ انْتَهَى. أَقُولُ: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى سَبْعَةٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلطَّبْعِ، فَإِذَا طُبِعَ صَارَ أَثَرُ الطَّبْعِ فِيهِ كَيْفًا (قَوْلُهُ: فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَأُرِيدَ غَايَتُهُ) يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُشَبَّهَ فِي الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا وَمُنْتَزَعًا مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ كَالْمُشَبَّهِ بِهِ وَكَوَجْهِ الشَّبَهِ، فَالصَّوَابُ تَقْرِيرُ الْمُشَبَّهِ هُنَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.
وَنَقَلَ شَيْخُنَا فِي حَاشِيَتِهِ هُنَا عَنْ حَوَاشِي الْكَشَّافِ لِلسَّيِّدِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُنْتَزَعَ فِي الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَلْفَاظٍ كُلِّهَا مَذْكُورَةٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَلْفَاظٍ بَعْضُهَا مَذْكُورَةٌ وَبَعْضُهَا مُتَخَيَّلٌ (قَوْلُهُ: كَغَرِثَ وَغَرْثَانَ)

الصفحة 23